الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل: صلاة الخوف طائفتين بإمام توسعة ورخصة

                                                                                                                                                                                        صلاة الخوف طائفتين بإمام توسعة ورخصة، ولهم أن يصلوها بإمامين، قال محمد بن المواز: صلاة الخوف توسعة، قال: ولو صلوا بإمام واحد أو بعضهم بإمام وبعضهم لنفسه، لكانت صلاتهم جائزة. فعلى هذا يجوز أن تصلى طائفتين بإمامين، ولو كان الوجه في صلاة الطائفتين بإمام أن لا يختلف [ ص: 600 ] على الأئمة ما جاز أن يصلي بعضهم أفذاذا; لأن ذلك غير جائز لمن جمعه مع الإمام المسجد.

                                                                                                                                                                                        وصلاة الخوف كصلاة الأمن في العدد، في السفر ركعتان، وفي الحضر أربع، ولا تأثير للخوف في أعدادها، فإن كان في سفر صلى بكل طائفة ركعة، وإن كان في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين، والمغرب بالطائفة الأولى ركعتين، والثانية ركعة، والسفر والحضر فيها سواء، فإن صلى بهم الظهر في السفر صلى ركعة ثم ثبت قائما، وأتم المأمومون ركعة، ثم انصرفوا إلى القتال، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها ركعة ويسلم، ثم يقضون الركعة التي سبقهم بها الإمام، وإن كانت صلاة المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين، فإذا تشهد قام وأتم القوم الركعة التي بقيت عليهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، ثم أتم القوم ما سبقهم به.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في الإمام والطائفة الأولى والثانية، فأما الإمام إذا تشهد فاختلف فيه في ثلاثة مواضع: فقال مرة: يقوم ثم يتم القوم، وقال مرة: يثبت جالسا ويتمون. وهذا الموضع لم تأت فيه سنة فتتبع، والأمر فيه واسع إن شاء الله، إن شاء قام وإن شاء جلس، وأن يجلس حتى يأتي الآخرون أحسن; لأنه أرفق به. [ ص: 601 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف في قراءته على القول أنه يقوم، فقيل: يقرأ: "الحمد لله" على العادة، وقيل: لا يقرأ حتى يأتي الآخرون، ولأشهب في مدونته ومحمد بن سحنون في المبسوط أنه يستفتح القراءة بالطائفة الثانية بالحمد، ولم يريا له أن يقرأ قبل أن يأتي القوم، وهو أصوب; للحديث أن الطائفة الآخرة أتت فصلى بها ركعة، وظاهر هذا أنه قرأ بهم، فلو كان يقرأ قبل أن يأتوا لقال: ركع بهم لما أتوا، والوجه الآخر: إذا أتم بالطائفة الثانية ركعة، فقال مرة: يسلم ويتم القوم لأنفسهم، وقال: يثبت حتى يتموا ثم يسلم ويسلمون.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الطائفة الأولى فقال: لا تتم، فإذا صلى بها الإمام ركعة انصرفت للقتال، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فإذا صلى بها ركعة سلم، ثم قضت الطائفتان.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في مدونته : تتم هذه الطائفة الآخرة ثم تنصرف، ثم تأتي الطائفة [ ص: 602 ] الأولى فتقضي، وقد عارض ابن حبيب أشهب وحمل عليه أن الطائفتين تقضي معا. وليس قوله كذلك، وفي بعض أحاديث ابن عمر أن القضاء للطائفتين بعد سلام الإمام كان مختلفا لم يقضوا معا، وقيل في الطائفة الثانية: إنها تحرم مع الإمام وهي في القتال.

                                                                                                                                                                                        وكل هذا الاختلاف لاختلاف الأحاديث، وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك أربعة أحاديث:

                                                                                                                                                                                        حديث يزيد بن رومان -رضي الله عنه-: "أن الطائفة الأولى أتمت ثم انصرفت للقتال، ثم أتت الطائفة الأخرى، فصلى بها ركعتين، ثم ثبت حتى أتمت وسلم بهم".

                                                                                                                                                                                        وحديث ابن عمر، قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم، وجاء أولئك فصلى بهم، ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة". وبهذا الحديث أخذ أشهب.

                                                                                                                                                                                        وحديث القاسم بن محمد: أنه سلم لما أتم بالطائفة الأخرى، ثم أتموا.

                                                                                                                                                                                        وحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "قام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام الناس معه، وكبر [ ص: 603 ] وكبر الناس معه، ثم ركع وركع الناس معه، ثم سجد وسجد الناس معه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا معه وحرسوا إخوانهم وآتت الطائفة الأخرى..." الحديث.

                                                                                                                                                                                        خرج هذه الأحاديث البخاري ومسلم والموطأ، وإن كان بعضهم يزيد على بعض، ومحملها على أنها صلوات، وكل ذلك توسعة ورخصة، يفعل الإمام والمأمومون أي ذلك شاؤوا، إلا أن الترجيح يختلف مع كون الآخر سائغا.

                                                                                                                                                                                        وسلام الإمام إذا أتم بالطائفة الآخرة أحسن; لأن العمل على أن الإمام لا ينتظر تمام صلاة من خلفه، ولو أن إماما صلى ركعة فذا، ثم أتى قوم، فصلى بهم بقية الصلاة لم ينتظرهم، ولا خلاف في ذلك، فصلاة الأمن والخوف في ذلك سواء; لأن تعجيل سلامه وتأخيره في باب الخوف واحد.

                                                                                                                                                                                        وأما قضاء الطائفة الأولى، فقول مالك: "إنهم لا ينصرفون قبل أن يتموا" أبين; لأنهم قادرون على أن يأتوا ببقية الصلاة، وإذا جاز ذلك كان الأخذ به أولى من أن ينصرفوا، فيفعلوا ما يضاد الصلاة قبل تمامها، ورجح أشهب حديث ابن عمر; لأن الأصل أن المأموم لا يأتي بما بقي عليه من [ ص: 604 ] صلاته من قضاء وبناء حتى يخرج من حكم الإمام.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان العدو في القبلة، هل يصلي بهم جميعا أو طائفتين؟ فقال أشهب في مدونته: لا يفعل; لأنه يتعرض إلى أن يفتنه العدو أو يشغله، قال: فإن فعل أجزأه وأجزأهم.

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب مسلم: "أن العدو لما كان في القبلة، صف النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه صفين، فكبر وكبروا معه، وركع وركعوا معه، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه خاصة، ثم قام وقام الصف الذي سجد معه، وانحدر الصف المؤخر، فسجدوا، ثم قاموا وتقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- وركع جميعهم معه، ثم سجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا، وقام الصف المؤخر في نحو العدو، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر، فسجدوا، ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم جميعا" وهذه صفة حسنة، وليس يخشى فيها ما يخشى إذا كان سجودهم كلهم معا.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية