الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الأكل من الهدي]

                                                                                                                                                                                        الهدي والأكل منه على أربعة أوجه : جائز قبل بلوغ محله وبعد ، وممنوع قبل وبعد ، وجائز قبل ممنوع بعد ، وممنوع قبل جائز بعد .

                                                                                                                                                                                        فكل هدي واجب في الذمة عن حج أو عمرة ، من فساد أو متعة أو قران أو تعدي ميقات أو ترك النزول بعرفة نهارا أو ترك النزول بالمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو تأخير الحلاق - يجوز الأكل منه قبل وبعد .

                                                                                                                                                                                        وأما جزاء الصيد وفدية الأذى فيأكل منه قبل ، ولا يأكل منه بعد .

                                                                                                                                                                                        والمنذور المضمون إذا لم يسمه للمساكين يأكل منه قبل وبعد ، وإن سماه [ ص: 1242 ] للمساكين وهو مضمون أكل منه قبل ، ولم يأكل منه بعد . وإن كان منذورا معينا ولم يسمه للمساكين أو قلده وأشعره من غير نذر - أكل منه بعد ، ولم يأكل منه قبل .

                                                                                                                                                                                        وإن نذره للمساكين وهو معين ، أو نوى ذلك حين التقليد ، لم يأكل منه قبل ولا بعد . وذكر محمد قولا آخر : أنه لا يأكل من هدي الفساد . ويلزم على هذا ألا يأكل من شيء ساقه عن وصم في حج أو عمرة .

                                                                                                                                                                                        وذكر ابن نافع عن مالك في المبسوط في الجزاء والفدية ، أنه قال : لا ينبغي أن يأكل . فإن فعل فلا شيء عليه . فمنع في القول الأول من الأكل منه لما جعل للمساكين فيهما مدخلا إذا كفر بالإطعام ، ولم يمنع في القول الآخر قياسا على المتعة وغيرها ، وأجرى الهدي على الأصل إذا سيق عن وصم ، فإنه لا يمنع الأكل منه .

                                                                                                                                                                                        والقياس في الجزاء ألا يأكل ؛ لأنه إنما غرم قيمة شيء أتلفه ، فوجب أن يجري على الأصل في قيمة المتلفات : ألا حق له في الانتفاع من القيمة ، وهو في إماطة الأذى أخف ؛ لأنه إنما غرم عن شيء انتفع به ، كالوطء والمتعة ، اختلف في الأكل مما نذره للمساكين ، فقال مالك مرة : لا يأكل منه . واستحب مرة ترك الأكل منه ، ورأى أن التقليد والإشعار والذبح إنما أوجب الالتزام . [ ص: 1243 ]

                                                                                                                                                                                        ولو أوجبه للمساكين ولم يسمه هديا لم يجزئ على أحد القولين ، ولم يجبر على منع الأكل ، فكذلك إذا سماه هديا . ومنع من الأكل من كل معين هلك قبل محله للحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث هديا ، فقال المبعوث معه : يا رسول الله ، كيف أصنع بما أعطيت ؟ فقال : "انحرها وألق قلائدها في دمها ، ثم خل بين الناس وبينها" . قال مالك : فإن أكل صاحبه ، أو أمر من أكل منه ضمن .

                                                                                                                                                                                        وإن بعث به فعطب لم يأكل منه المبعوث معه ، وإن أكل فلا شيء عليه ، إلا أن يأكل بأمر صاحبه فيضمن صاحبه .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو محمد عبد الوهاب في منع صاحبه أن يأكل منه : لأنه يتهم أن يكون أعطبه ليأكل منه . وليس بحسن ، بل ذلك عند مالك شرع ؛ لأنه قال : يضمن إن أمر المبعوث معه بالأكل وإن لم يأكل ، ولا تهمة في هذا أن يعطيه ليطعم غيره . [ ص: 1244 ]

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن كان معه هدي جزاء صيد فضل منه ، فأبدله ، فعطب البدل في الطريق ، فأكل منه ، ثم وجد الأول : نحره عن الجزاء ، وأبدل الثاني ؛ لأنه يصير كالتطوع . وهذا أبين ؛ لأن البدل لم يكن لأجل التهمة .

                                                                                                                                                                                        ومن كان معه هدي متعة وجزاء صيد فاختلطا بعد الذبح لم يأكل من واحد منها ؛ لجواز أن يكون هدي الجزاء . وإن عطب أحدهما قبل بلوغه جاز أن يأكل منه ؛ لأنهما مضمونان . وإن كان أحدهما تطوعا والآخر مضمونا لم يأكل منه ؛ لجواز أن يكون التطوع ، ويأتي بالبدل ؛ لجواز أن يكون المضمون . فإن كان قد بلغ المحل ثم اختلط أكل من أيهما أحب ، ما لم يكن المضمون جزاء صيد . وقال ابن الماجشون : إذا ضل جزاء الصيد وأبدله ثم وجد الأول نحرهما وأكل من الثاني ، قال محمد : وإن أكل من الثاني بعد أن بلغ وقبل أن يجد الأول أبدله . فإن لم يبدله حتى وجد الأول فلا شيء عليه ؛ لأن الثاني يصير تطوعا أكل منه بعد بلوغه .

                                                                                                                                                                                        وقال الثوري وأصحاب الرأي : إذا ضل الهدي الواجب فأبدله ثم وجد الأول نحره ، وإن نحر الثاني فهو أفضل ، وإن باع فلا شيء عليه . وقول ابن الماجشون "أن له أن يبيع الواجب إذا عطب قبل بلوغه" نحو من هذا .

                                                                                                                                                                                        وإن كان مضمونا أو منذورا معينا للمساكين فعطب أحدهما قبل محله واختلطا لم يأكل ؛ لجواز أن يكون المنذور ، وعليه البدل ؛ لجواز أن يكون هو [ ص: 1245 ] المضمون . وإن بلغا أكل من الثاني خاصة ، فإن كان الأول الذي عطب المنذور كان هذا تطوعا والأكل منه جائز ، وإن كان الأول المضمون جاز أن يأكل من بدله .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية