الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن وقف بعرفة مغمى عليه ، أو مر بعرفة وهو لا يعرفها ، أو يعرفها ولم يقف بها ، ومن أخطأ العدد فوقف بعد يوم عرفة ، أو أتى مفاوتا وعليه صلاة

                                                                                                                                                                                        واختلف في وقوف عرفة لثلاثة :

                                                                                                                                                                                        أحدها : هل يجزئه إذا كان مغمى عليه ؟ والثاني : إذا كان في عقله هل يجزئه كونه بها وإن لم يعرفها أو حتى يعرفها ؟ وإن لم يقف أو حتى يقف ؟ والثالث : هل يجزئه وقوف النهار ؟

                                                                                                                                                                                        فقال مالك فيمن أتي به إلى عرفة وهو مغمى عليه ، ووقفوا به على حاله تلك : أنه يجزئه . وروى عنه مطرف وابن الماجشون في كتاب ابن حبيب : إن أغمي عليه بعرفة قبل الزوال لم يجزئه ، وإن أغمي عليه بعد الزوال ، فإن كان ذلك قبل أن يقف أجزأه ، وإن اتصل به الإغماء حتى دفع به ، وليس عليه أن يقف ثانيا إن أفاق من بقية ليلته . قالا : وهو كالذي يغمى عليه في رمضان قبل الفجر ، فلا يجزئه . وإن طلع الفجر وهو في عقله ، ثم أغمي عليه بعد ذلك لم يضره .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر : إن وقف مفيقا ثم أغمي عليه أجزأه ، وإن وقف مغمى عليه فلم يفق حتى طلع الفجر لم يجزئه . [ ص: 1210 ]

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في مدونته : ووقف في المدونة فيمن مر بعرفة ولم يقف بها ، فلم يقل : إنه يجزئه أو لا يجزئه . وعلى قوله في المغمى عليه أنه يجزئه ، ولو لم يكن في عقله - يجزئ هذا وجوده من الوقوف .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد فيمن دفع إلى عرفة قبل غروب الشمس ، ثم لم يخرج منها حتى غربت الشمس : أنه يجزئه . وإن خرج قبل أن تغرب الشمس ، ولم يرجع حتى طلع الفجر لم يجزئه ، وهذا إنما حصل منه المرور بغير نية الوقوف ؛ لأنه على نية الانصراف .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن مر بعرفة ليلا ، وشقها وهو يعرفها ، ولم ينزل بها : أنه يجزئه إذا نوى به الوقوف ، وذكر الله . ولو كان مروره وهو لا يعرفها ، ولم ينزل بها لم يجزئ ، وبطل حجه . يريد : بعدم النية ، وهذا أحسنها ، فلا يجزئه إلا أن ينوي الوقوف ، ويذكر الله تعالى ، عرفها أو لم يعرفها . وإن لم ينو الوقوف ، أو نواه ولم يذكر الله لم يجزئه .

                                                                                                                                                                                        وقد أوجب الله تعالى وقوف عرفة ، وأبان النبي - صلى الله عليه وسلم - صفته ، فعلم أن الفرض ليس بأن يمضي لذلك الوضع فيمشي فيه ، أو ينام فيه ثم ينصرف .

                                                                                                                                                                                        وكذلك أرى في المغمى عليه أنه لا يجزئه إذا زالت الشمس وهو مغمى عليه ، أو كان في عقله ثم أغمي عليه قبل أن يقف ؛ لأن ذلك يرجع إلى أن الفرض وجود جسمه لا غير ذلك . والمغمى عليه أبين ألا يجزئه ؛ لأنه مخاطب [ ص: 1211 ] أن يتقرب إلى الله بالوقوف ، والمغمى عليه غير متقرب إلى الله .

                                                                                                                                                                                        وقوله الآخر : إذا كان في عقله ووقف أحسن . وقوله في المغمى عليه عند ابن حبيب دليل أن الوقوف بالنهار يجزئ ؛ لأنه بمنزلة الصائم في طلوع الفجر ، ولو كان الفرض الليل دون النهار لقال : إذا كان في عقله بعد غروب الشمس أجزأه ، وإن غربت وهو مغمى عليه لم يجزئه .

                                                                                                                                                                                        وقال يحيى بن عمر في أهل الموسم ينزل بهم ما نزل بالناس سنة العلوي ، وهروبهم من عرفة قبل أن يتموا الوقوف : أنه يجزئهم ولا دم عليهم ، إنما يصح على القول : أن وقوف النهار دون الليل يجزئ .

                                                                                                                                                                                        وفي الترمذي : "أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمزدلفة ، فقال : يا رسول الله ، جئت من جبلي طيئ ، ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، هل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف بها معنا حتى يدفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه" . وهو حديث صحيح .

                                                                                                                                                                                        وأيضا فلا يشبه أن يكون الفرض من غروب الشمس إلى ما بعد ، ويكون ما قبله من عند الزوال إلى غروب الشمس تطوعا ، ويكلف أمته الوقوف من الزوال إلى الغروب ، مع كثرة ما فيه من المشقة فيما لم يفرض عليهم ، ثم يكون [ ص: 1212 ] حظه من الفرض لما دخل بغروب الشمس الانصراف إلى ما سواه ؛ لأن الأحاديث إنما جاءت : أنه لما غربت الشمس دفع ولم يقف . ويكون الفرض المشي حتى يحل . يخرج من الحل .

                                                                                                                                                                                        والوقوف عبادة يؤتى بها على صفة ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أتى الناس يبين لهم معالم دينهم ، وقد علموا أنه فرض عليهم الوقوف بعرفة ، وأتوا لامتثال ما فرض عليهم ، وهو المبين لأمته . ولو كان في تطوع والفرض من غروب الشمس لبينه ؛ لأنه ليس يفهم من مجرد فعله أنه كان في تطوع ، بل المفهوم أنهم كانوا في امتثال ما أمروا به وما أتوا إليه ، وقد احتج في القول الأول : أن الفرض في الليل دون النهار بأشياء ، منها : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أفاض من عرفات قبل الصبح فقد تم حجه" . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من وقف بعرفة بليل فقد أدرك ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج" . معلق الفوات بالليل والاحتجاج بهذا ليس بالبين ؛ لأن الوقوف له أول ، وهو من الزوال ، [ ص: 1213 ] وآخر وهو ما لم يطلع الفجر .

                                                                                                                                                                                        وإنما تضمنت هذه الأحاديث معرفة آخر الوقت ، وقد كان وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في أول الوقت ، فأخبرهم : أنه من فاته الوقوف معه لم يفته الحج ، وأن الوقوف باق إلى طلوع الفجر ، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر" . وأول العصر إذا دخلت القامة الثانية ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد أدرك الحج" ، ولفظة الإدراك إنما يعتد بها في الغالب عما يخشى فواته ، ويدل على ذلك : الإجماع على أنه لا يجوز أن يتعمد الناس باجتماعهم للوقوف قبل الفجر ، ويدعون النهار . واحتج للقول الأول في ذلك أيضا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لضعفة أهله في الدفع من المزدلفة بليل ، ولم يأذن بذلك من عرفة . ولو كان النهار فرضا لأذن لهم . وهذا غير صحيح لوجهين :

                                                                                                                                                                                        أحدهما : أنهم استأذنوه في جمع ، ولم يستأذنوه بعرفة ، فمنعهم ، فيعلم افتراق الحكمين .

                                                                                                                                                                                        والثاني : أنهم لو استأذنوه فمنعهم لأمكن أن يكون ذلك لأنهم في أفضل يوم وأفضل الساعات ، ولما يرجى من الغفران والرحمة ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم [ ص: 1214 ] عرفة" . وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، وليس المبيت بالمزدلفة كذلك .

                                                                                                                                                                                        والثالث : أنه لا مضرة عليهن في الدفع من عرفة باتساع الموضع ، وتدركهن المضرة إذا دفعن من المزدلفة ؛ لازدحام الناس عند الجمرة .

                                                                                                                                                                                        ولم أر نصا في القدر الذي يجزئ من الذكر ، إلا ما قاله محمد : إذا ذكر الله . ولم يزد على هذا ، فظاهر قوله : أنه يجزئه من ذلك ما قل . وقد اختلف في مثل هذا في الخطبة في الجمعة ، هل يكفي من ذلك ما قل ، أو لا يجزئ إلا ما له بال وقدر ؟

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن المواز فيمن أتى عرفة مقاربا للفجر وهو ناس لصلاة ، فإن صلى فاته الوقوف وطلع الفجر وبطل ، فقال : إن كان قريبا من جبال عرفة وقف ثم صلى . وإن كان بعيدا بدأ بالصلاة ، وإن فاته الحج ، قال محمد بن عبد الحكم : إن كان من أهل مكة وما حولها بدأ بالصلاة ، وإن كان من أهل الآفاق مضى إلى عرفة فوقف وصلى .

                                                                                                                                                                                        فغلب أحد الضررين ، وأرى إن ذكر وقد دخل أول عرفة فصار إلى الحل بدأ بالصلاة ، وأجزأه المرور من الوقوف على القول أنه إذا مر بها مارا ولم يقف أنه يجزئه .

                                                                                                                                                                                        وعلى القول : أنه لا يجزئه المرور من الوقوف ؛ يختلف بأي ذلك يبدأ ؟ وأرى أن يبدأ بالوقوف ؛ لأنه قد تزاحم الفرضان ، فيبتدئ بما يدركه بتأخيره [ ص: 1215 ] ضرر ، وهو الحج ، ثم يؤخر الصلاة . ولأنه قادر على أن يأتي بها بفور الوقوف من غير تراخ ، فكان ذلك أولى من تأخير قربة لا يقدر على أن يوفي لها إلا العام . ومثله لو ذكر الصلاة قبل أن يبلغ عرفة ، وكان متى اشتغل بها فاته الوقوف ، فإنه يتمادى ويقف ، ثم يقضي الصلاة ، وعلى القول الآخر : يتمادى فإذا دخل أول عرفة صلى ، وأجزأه عن الوقوف .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية