الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الحربي يقدم بأمان ومعه مال لمسلم ، [أو معه مسلم] حر أو عبد ، والحربي يسلم على مال المسلم ، أو على مسلم حر أو عبد ، وفي عبد الحربي يسلم بأرض الحرب ثم يسلم سيده ، أو يخرج إلينا وهو مسلم أو كافر فيسلم ، أو يبقى على دينه

                                                                                                                                                                                        وإذا قدم الحربي بلاد المسلمين ومعه مال لمسلم ؛ لم يعرض له فيه ما دام في يديه وكذلك ، إن أراد الرجوع به لم يمنع .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قدم بمسلمين -أحرار أو عبيد - على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                        فقيل : له أن يرجع بهم إن أحب .

                                                                                                                                                                                        وقيل : ليس ذلك له .

                                                                                                                                                                                        وقيل : ذلك له في الذكران دون الإناث .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في كتاب محمد : لا يمنع من الرجوع بهم وإن كن إماء لم يمنع من وطئهن ، وقال عبد الملك : يعطى في كل مسلم أوفر قيمته ، وينتزع منه ، وقال ابن حبيب : يباع عليه عبيده إذا أسلموا ، كما يفعل بالذمي ، ثم لا [ ص: 1384 ] يكون ذلك نقضا للعهد .

                                                                                                                                                                                        وحكى سحنون عن ابن القاسم أنه قال : يجبر على بيع المسلمات .

                                                                                                                                                                                        يريد : بخلاف الذكران . وقاله ابن القصار ، قال : إذا عقد الإمام للمشركين وهادنهم على من جاءه مسلما رده إليهم ؛ يوفى لهم بذلك في الرجال ، ولا يوفى لهم به في النساء .

                                                                                                                                                                                        فأمضى ذلك لهم ابن القاسم في القول الأول ؛ لحديث مسور - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة مسلما ؛ رده إليهم . اجتمع عليه البخاري ومسلم .

                                                                                                                                                                                        ولم يمض ذلك في القول الآخر ؛ لأن ذلك كان في أول الإسلام ، وقبل أن يكثر المسلمون ، وقد وعدهم الله -عز وجل- بالنصر وإظهار دينه وبفتح مكة وظهوره عليهم ، فكان كما وعد الله -عز وجل- ، فلا يجوز ذلك اليوم بعد ظهور الإسلام ، ولأن فيه وهنا على المسلمين ، وإذلالا لهم .

                                                                                                                                                                                        وفرق في القول الآخر بين الرجال والنساء ؛ لقوله سبحانه : إذا جاءكم [ ص: 1385 ] المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار [الممتحنة : 10] .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قدم بمتاع لمسلم ، فقال ابن القاسم في المدونة : لا أحب لمسلم أن يشتريه منه ، فإن اشتراه لم يكن لصاحبه أن يأخذه بالثمن . وإن وهبه لأحد ؛ لم يأخذه سيده على حال .

                                                                                                                                                                                        وأجاز ذلك محمد ، وقال : إنه إن لم يشتره ؛ رده العلج إلى بلده . فالشراء أفضل ، يجده صاحبه فيفتديه ، ويكون أحق به .

                                                                                                                                                                                        وقال إسماعيل القاضي : لم يحك ابن القاسم هذه المسألة عن مالك ، والذي يشبه على مذهب مالك : أن له أن يأخذه بالثمن الذي اشتراه به ، وفي الهبة يأخذه بغير ثمن .

                                                                                                                                                                                        وهذا أحسن ، ولا فرق بين أن يشتريه منه وهو بأرض الحرب أو وهو بأرض الإسلام ؛ لأنه لم يكن يقدر على أخذه منه وهو بأرض الحرب . وقد قال ابن القاسم في المدونة فيمن اشترى أمة من العدو : لا أحب له أن يطأها ؛ في بلاد الحرب اشتراها في بلد الحرب ، أو بلاد المسلمين .

                                                                                                                                                                                        وهذا نحو ما قاله محمد وإسماعيل . [ ص: 1386 ]

                                                                                                                                                                                        فإن أسلم عندنا كان بمنزلة ما لو أسلم في أرض الحرب ؛ له ما أسلم عليه من أموال المسلمين .

                                                                                                                                                                                        فإن كان في يديه عبد مسلم- أقر في يديه . وإن أسلم على حر أو حرة انتزعا منه بغير قيمة ، وإن أسلم على ذمي كان له رقيقا . وهذا قول ابن القاسم ، وقال أشهب : هو حر ، ولا يسترق .

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن ؛ لأن الذمة عقد له علينا ، ولا عقد له على من كان بأرض الحرب .

                                                                                                                                                                                        وإن أسلم على أم ولد ؛ انتزعت من يده بقيمتها ، أو على معتق إلى أجل كان له خدمته ، فإذا انقضى الأجل ؛ كان حرا ، أو على مكاتب ؛ كانت له كتابته ، فإن أداه كان حرا ، وإن عجز ؛ كانت له رقبته . أو على مدبر ؛ فله خدمته ، فإن مات السيد والثلث يحمله ؛ كان عتيقا ، وإن كان على السيد دين يستغرقه ؛ كان رقيقا لمن أسلم عليه .

                                                                                                                                                                                        وإن لم يكن له مال سواه ؛ أعتق ثلثه ، وكان له ثلثاه .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم : إن أسلم عبد الحربي ؛ لم يسقط ملك سيده عنه ، فإن أسلم سيده بعده ؛ كان له رقيقا ، وإن أعتقه ؛ كان له ولاؤه ، وإن باعه ؛ كان ملكا للمشتري . [ ص: 1387 ]

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب : هو حر بنفس إسلامه ، فإن أسلم سيده بعده ؛ لم يكن له فيه شيء . وإن أعتقه ؛ لم يكن له ولاؤه . وإن اشتراه منه مسلم ؛ كان كالفداء ، يتبعه بما اشتراه به .

                                                                                                                                                                                        وقد اشترى أبو بكر الصديق من المشركين بلالا ، بعدما أسلم وأعتقه ، وذكر البخاري عن عمر : أنه كان يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، يعني : بلالا .

                                                                                                                                                                                        وقال بلال لأبي بكر : إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني ، وإن كنت اشتريتني لله -عز وجل- فدعني وعمل الله .

                                                                                                                                                                                        ولا خلاف أنه إن فر إلينا بعد إسلامه وقبل إسلام سيده وقبل أن يعتقه ؛ أنه حر ؛ لأنه غنم نفسه . وإن أسلم سيده بعد ذلك ، وخرج إلينا ، لم يكن له عليه سبيل .

                                                                                                                                                                                        فإن نزل المسلمون بموضعه ، فخرج إليهم قبل الفتح ؛ كان حرا ، ولا سبيل لأهل الجيش عليه .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يخرج حتى وقع الفتح ودخل المسلمون عليهم ، فقال ابن القاسم : هو حر .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : هو رقيق لذلك الجيش . [ ص: 1388 ]

                                                                                                                                                                                        وهو أقيس على أصل ابن القاسم ؛ لأنه ملك لسيده حين دخل عليه ، وإنما يكون حرا إذا خرج إلينا ؛ لأنه غنم نفسه .

                                                                                                                                                                                        وإذا أسلم عبد لحربي ، ثم فر إلى أرض الإسلام بمال لسيده ؛ كان له ، إن كان في يده لتجارة أو كان خراجه ترك في يديه ، أو سرقه لسيده ، ولا يخمس ؛ لأنه مما لم يوجف عليه .

                                                                                                                                                                                        وإن كان في يده على وجه الأمانة ؛ استحب له أن يرده إلى سيده ، ولم يعرض له فيه إن أمسكه .

                                                                                                                                                                                        وكذلك إن فر إلى أرض الإسلام وهو كافر ثم أسلم . فإن بقي على كفره وأراد المقام ، وتضرب عليه الجزية ؛ كان ذلك له ، ولم يرد إلى سيده .

                                                                                                                                                                                        وإن أسلم بعد الجزية كان حرا ، وسقطت الجزية عنه . [ ص: 1389 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية