الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن يسهم له من أهل الجيش ومن لا يسهم له

                                                                                                                                                                                        السهمان يجب لمن يتوجه عليه الخطاب بالجهاد ، وذلك بسبعة شروط :

                                                                                                                                                                                        أن يكون ذكرا ، بالغا ، عاقلا ، حرا ، مسلما ، سالما من الزمانة المانعة من القتال ، وأن يكون خروجه للجهاد لا لتجارة ولا بإجارة . ولا يسهم لمن لم يحتلم ولم يطق القتال .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا راهق وأطاق القتال ، قد قاتل أو لم يقاتل ، وفي المرأة إذا قاتلت ، وفي الأجير والتاجر والمريض .

                                                                                                                                                                                        ويختلف في الزمن : كالأعمى والأقطع والأعرج والمقعد والأشل . ولا يسهم للمفلوج اليابس الشق ، ولا المجنون المطبق ، ويسهم للأهوج العقل .

                                                                                                                                                                                        قال في المدونة : لا يسهم للصبيان ولا للنساء ولا للعبيد وإن قاتلوا . وقال مالك في كتاب محمد : يسهم لمن راهق ، وبلغ مبلغ القتال إذا حضر القتال . [ ص: 1423 ]

                                                                                                                                                                                        وقال محمد : لا يسهم له حتى يقاتل . وقال ابن حبيب : إذا أنبت وبلغ خمس عشرة سنة فسبيله سبيل الرجل ، يسهم له قاتل أو لم يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يسهم له إذا رئي فيه قوة على القتال ، وحضر الصف ، وأخذ أهبة الحرب ، وإن لم يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب في المرأة إن قاتلت كقتال الرجال ؛ أسهم لها . وهذا أحسن .

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يسهم لها إذا كان فيها شدة ، ونصبت للحرب ، وإن لم تقاتل .

                                                                                                                                                                                        وأما العبيد وأهل الذمة : فإن خرجوا من أرض الإسلام متلصصين فغنموا- كانت تلك الغنائم لهم ، ولا يخمس ما ينوب الكافر .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيما ينوب العبد ، فقال ابن القاسم : يخمس . وقال سحنون : لا يخمس . ورأى أن الخطاب في الخمس إنما ورد فيمن خوطب بالجهاد . ويلزم على قوله ألا يخمس سهم الصبي والمرأة ؛ لأنهما ممن لم يخاطب بالجهاد .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في العتبية : إذا خرج حر وعبد متلصصين فغنما ، خمس ما أصابا ، ثم يقسم ما بقي بينهما . [ ص: 1424 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف : هل يسهم لهما إذا كانوا في جملة الجيش ؟ فقال مالك وابن القاسم في العبيد وأهل الذمة إذا كانوا في جملة الجيش : لا يسهم لهم .

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم في العتبية : لأن المسلمين لا يستعينون بالعبيد ، ولا بالنصارى في عسكرهم .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : إذا نفر أهل الذمة مع طوائفنا فما صار إليهم ترك ولم يخمس . فجعل لهم نصيبا مع الجيش .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون : إن كثروا ، ولو انفرد المسلمون قدروا على تلك الغنيمة لم يكن لأهل الذمة شيء ، وإلا قسمت بين جميعهم . وهذا أعدلها وكذلك العبيد إذا كان لا يقدر الأحرار إلا بهم ؛ قسمت بين جميعهم .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : في عبيد وذميين خرجوا من العسكر فغنموا ، فالغنيمة للجيش دونهم .

                                                                                                                                                                                        وعلى قول سحنون يكون لهم سهمهم بمنزلة لو كانوا في جملتهم ، وقووا بهم . وأما الأجير فإن كان في رحله ؛ لم يسهم له .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيه إذا قام في الصف أو قاتل : فقال مالك في المدونة : إن شهد القتال وقاتل- أسهم له ، وإن لم يقاتل فلا شيء له . [ ص: 1425 ]

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : إن شهد القتال أو كان مع الناس عند القتال- أسهم له ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                                        وقال في مدونة أشهب : لا شيء له وإن قاتل .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في المدونة في التاجر : إنه مثل الأجير . يريد : أن لا شيء له إلا أن يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : إن شهد القتال أسهم له وإن لم يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو الحسن ابن القصار في الأجير : إذا خرج للجهاد والإجارة لغير خدمة كالخياطة- فله سهمه حضر القتال أم لا ، وإن استؤجر في الخدمة فلا شيء له ، قال : والتاجر مثل ذلك . يريد : له سهمه إن خرج للجهاد والتجارة ، وإن لم يشهد القتال . وإن خرج للتجارة خاصة لم يسهم له إن لم يشهد القتال .

                                                                                                                                                                                        قال سحنون في كتاب ابنه ، في الأجير قد أخذ مالا فباع به خدمته : فلا يسهم له ، إلا أن يترك تلك الخدمة ويقاتل فله سهمه ، ويبطل من أجرته بقدر ما اشتغل عن الخدمة ، وكذلك أهل سوق العسكر لا سهم لهم ، إلا أن يقاتلوا .

                                                                                                                                                                                        وحكم النواتية في البحر كحكم الأجراء في البر : لا شيء لهم ، إلا أن [ ص: 1426 ] يقاتلوا ، أو يشهدوا القتال ، وإن لم يقاتلوا على القول الآخر .

                                                                                                                                                                                        وروى أشهب عن مالك : أن لا شيء لهم وإن قاتلوا . وأجراهم على حكم العبيد لما لم يكن لهم الخروج بهم ليقاتلوا .

                                                                                                                                                                                        واختلف في المريض إذا خرج مريضا .

                                                                                                                                                                                        وأرى أن لا شيء له ، إلا أن يقتدى برأيه ، فرب رأي أنفع من قتال .

                                                                                                                                                                                        وإن مرض بعد القتال أسهم له ، ويختلف إذا مرض بعد الإدراب وقبل القتال .

                                                                                                                                                                                        ولا أرى للزمن شيئا إذا كان لا يقدر بتلك الزمانة على القتال ، وإنما معونته بالخدمة قياسا على الخديم إذا لم يقاتل .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون في كتاب ابنه : يسهم للأعمى وأقطع اليدين والأعرج والمقعد والأشل ، قال : لأن الأعمى يبري النبل ، ويكثر الجيش ويزيد ، وقد يقاتل المقعد والمجذوم فارسا .

                                                                                                                                                                                        والصواب في الأعمى : أن لا شيء له ، فإن كان يبري النبل دخل بذلك في جملة الخدمة الذين لا يقاتلون . وكذلك أقطع اليدين لا شيء له ، وإن كان أقطع اليسرى أسهم له . ويسهم للأعرج إن حضر القتال ، وإن كان ممن يجبن عن القتال لأجل عرجه- لم يسهم له ، إلا أن يقاتل فارسا . ولا شيء للمقعد إذا كان راجلا ، وإن كان فارسا يقدر على الكر والفر أسهم له . [ ص: 1427 ]

                                                                                                                                                                                        وكل من تقدم ذكره ، أن لا سهم له- يجوز أن يحذى من الغنيمة ، وقد اختلف في ذلك : فقال في المدونة في النساء والصبيان والعبيد : لا يرضخ لهم . وقال ابن حبيب : يرضخ لهم . وهو أحسن .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهم للعبد والمرأة إلا أن يحذيا من الغنائم . أخرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                        وكذلك كل من للجيش فيه منفعة يجوز أن يحذى .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن ضل عن الجيش : فقال ابن القاسم في المدونة : إن ضل بأرض العدو فغنموا بعده فله سهمه .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في الذين يغزون في البحر فترد الريح بعضهم إلى بلاد الإسلام : فلهم سهمانهم .

                                                                                                                                                                                        وقال : إذا وقعت المراكب في أرض الروم ، ثم انكسرت ، أو مرض أهلها ؛ فرجعوا إلى الشام ، ثم غنموا الذين مضوا : فللآخرين سهمانهم إذا [ ص: 1428 ] رجعوا خوفا على أنفسهم .

                                                                                                                                                                                        وروى ابن نافع عنه في كتاب ابن سحنون فيمن ضل عن الجيش حتى غنموا : أن لا سهم له .

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون فيمن ردته الريح أو رجع لمرض : لا سهم له . وهذا أحسن ، ولا أرى أن يستحق السهمان إلا بشهود القتال ، فمن لم يشهده لمرض ، أو موت ، أو لأنه ضل ، أو ردته الريح ، أو غير ذلك- فلا شيء له .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : إن ظفر بالعدو وفيهم مسلمون أسارى أسهم لهم وإن كانوا في الحديد .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : قال ابن الماجشون : قال ابن شهاب : لم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لغائب إلا يوم خيبر قسم لأهل الحديبية ؛ لقول الله -عز وجل- : وعدكم الله مغانم كثيرة [الفتح : 20] .

                                                                                                                                                                                        ويوم بدر لعثمان وكان خلفه على ابنته ، وقسم لطلحة وسعيد بن زيد [ ص: 1429 ] يوم بدر وهما غائبان .

                                                                                                                                                                                        قال ابن حبيب : قال أهل العلم هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واجتمع المسلمون بعده على ألا يقسم لغائب . وقد يحمل فعله إنه كان من الخمس .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن المواز : لو بعث الإمام قوما من الجيش قبل أن يصل لبلد العدو في مصلحة الجيش ، أو لإقامة سوق ؛ فاشتغلوا في ذلك حتى غنم الجيش- فلهم سهمهم معهم . واحتج بعثمان .

                                                                                                                                                                                        وروى ذلك ابن وهب وابن نافع عن مالك . وروي أيضا عن مالك أنه لا شيء له .

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن ؛ لأن هذا كان قادرا على الكون معهم في القتال والغنيمة معهم ، فاحتبس عن ذلك لهم ، بخلاف من لم يشتغل بهم . [ ص: 1430 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية