الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [فيما يحل من ذبائح أهل الكتاب]

                                                                                                                                                                                        ذبائح أهل الكتاب تحل بثلاثة شروط: أن يكون المذكى ملكا لهم، ومما يجوز لهم أكله، ولم يهلوا به لغير الله.

                                                                                                                                                                                        واختلف في ذكاتهم ما هو ملك لمسلم، وقد تقدم الكلام عليه، وفي ذبائحهم للصليب ولعيدهم وللكنيسة، وفي ذكاة اليهود كل ذي ظفر، وفيما وجدوه فاسدا عندهم، وفي شحومهم.

                                                                                                                                                                                        فقال مالك فيما أهل به لغير الله، فذبحوه لأعيادهم أو كنائسهم، قال في كتاب محمد : أو لعيسى أو لميكائيل يكره، ولا أحرمه .

                                                                                                                                                                                        قال ابن حبيب : وما ذبح للصليب بمنزلة ما ذبح للكنيسة لا بأس به .

                                                                                                                                                                                        وعلى هذا يجوز ما ذبح لعيسى أو لميكائيل أو للصليب. وقال ابن شهاب فيما ذبح لأيام يسمي عليها مثل أبي قرقس حلال، لا بأس به.

                                                                                                                                                                                        قال: وقد أحل الله تعالى طعام الذين أوتوا الكتاب، وقد علم أنهم يذكرون مثل ذلك، وكره ذلك مالك ; لقول الله سبحانه: وما أهل لغير [ ص: 1536 ] الله به [النحل: 115]; خيفة أن يكون مرادا بالآية، ولم يحرمه لعموم قوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة: 5] ، وأن يكون المراد: غير الكتابي. والصحيح: أنه حلال. والمراد فيما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب: الأصنام، وهي ذبائح المشركين. قال أصبغ في ثمانية أبي زيد : وما ذبح على النصب : هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية. قال: وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام . وفي البخاري ، قال زيد بن عمرو بن نفيل : أنا لا آكل ما تذبحون لأنصابكم . يعني: الأصنام.

                                                                                                                                                                                        وأما ما ذبحه أهل الكتاب، فلا يراعى ذلك فيهم، وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة، فأجاز مناكحتهم وذبائحهم لتعلقهم بشيء من الحق، وهو الكتاب الذي أنزل عليهم، وإن كانوا كافرين. ولو كان يحرم ما ذبح باسم المسيح; لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم، إلا أن يسأل هل سمي المسيح ، أو ذبح للكنيسة، بل لا يجوز، وإن أخبر أنه لم يسم المسيح; لأنه غير صادق. وإذا لم يجب ذلك; حلت ذبائحهم كيف كانت .

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك فيما وجده اليهود من ذبائحهم فاسدا لأجل الرئة، وهي التي يسمونها الطريف، بالإجازة والكراهة. فقال مرة: كل ما حرموه [ ص: 1537 ] على أنفسهم فليس بحرام في كتاب فلا بأس بأكله ثم كرهه وثبت على الكراهة، ولم يحرمه ، فكره ذلك لقول الله سبحانه: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [المائدة: 5] ، وهذا ليس من طعامهم. وأجازه; لأن المراد من طعامهم: ذبائحهم. ولأن هذا قصد الذكاة والذبح. وقوله في ثاني حال: إن كانت على صفة كذا; لا آكلها، لا يرفع ما تقدم من الذكاة.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الشحوم; فقال في كتاب محمد : هي محرمة، وقال في المبسوط: لا بأس به . وقاله ابن نافع . وقال ابن القاسم : لا يعجبني أكله، ولا أحرمه . وحكى ابن القصار عن ابن القاسم وأشهب أنها محرمة. واختلف في تذكيتهم كل ذي ظفر نحو الاختلاف في الشحوم، فقيل: ليس بذكي، وهو حرام. وقيل: يكره. وقيل: جائز. وقيل: يجوز الشحم; لأن الذكاة لا تتبعض. ولا يجوز هذا. وقال أصبغ في قول الله -عز وجل-: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما . . . الآية [الأنعام: 146] ، فقال : قال أشهب : كل ما كان محرما بكتاب الله سبحانه; فلا يأكله المسلم من ذبائحهم. ولا بأس بما [ ص: 1538 ] حرموه على أنفسهم. وقال ابن القاسم : لا يؤكل هذا ولا هذا. وقال ابن وهب : يؤكل ما حرمه الله -عز وجل- عليهم، وما حرموه على أنفسهم. وهو قول محمد بن عبد الحكم . قال: إنما أخبر الله سبحانه عما حرم عليهم في التوراة، وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحليل ذلك. واحتج من نصر القول الأول بقول الله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وهو ما أحل لهم قبل ذلك. وقال ابن الجهم : المعنى ذبائحهم.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه - : مضمون الآية: الإخبار عما كان محرما في التوراة، وقد نسخ ذلك بما خوطبوا به من الدخول في شرعنا، إلا أنهم معتقدون أن ذلك التحريم باق، وأن هذه الذكاة ليست بذكاة. وإلى هذا ذهب ابن القاسم أنها ذكاة بغير نية. فسواء كان ذلك المذكى ملكا لهم، أو لمسلم وكلهم على ذبحه. ورأى ابن وهب أن ذلك ذكاة; لأنه نوى الذكاة، وإن كانت عنده فاسدة .

                                                                                                                                                                                        ويختلف على هذا لو وكل رجل رجلا على أن يذبح له بعيرا أو أن ينحر له شاة، والآمر يعتقد أن تلك ذكاة، والمأمور لا يعتقد ذلك، فلا يكون ذكيا على [ ص: 1539 ] قول ابن القاسم . وهو ذكي على قول ابن وهب ; لأنه نوى الذكاة لمن وكله، واعتقاده أنها ذكاة فاسدة ليس إليه. ففارق بهذا من رمى شاة بحديدة فذبحها، ولم يرد ذبحها. ويختلف على هذا، لو ذبح إنسان شاة اقتداء بما رأى الناس عليه من ذلك، وهو لا يعلم أن ذلك شرع، ولا أنها لا تؤكل إلا بذلك.

                                                                                                                                                                                        وأما الشحوم; فالأمر فيها أشكل، فيصح أن يقال: إنها محرمة، وأن الذكاة تتبعض كما قال محمد بن مسلمة : إنها تتبعض في شرعنا، فلا تنفع في الدم، وتنفع فيما سواه. ويصح أن يقال: إنها تنفع في الشحم; لأن التبعيض في ذلك لله سبحانه، فإذا نسخ ذلك من شرعهم، وكانت النية للذكاة موجودة منهم، وصحت; كانت للجميع; لأن التبعيض منهم لا يصح، بخلاف ما لا يعتقدون ذكاته جملة. ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما. أخرجه البخاري ومسلم . [ ص: 1540 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية