روى عن البيهقي عبد الواحد بن عوف وغيره ، قالوا : إن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا أحد يغتر محمدا فإنه يمشي في الأسواق . فأتاه رجل من الأعراب فدخل عليه منزله؛ فقال : «قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم شدا؛ فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر ، فأسوره ثم آخذ في عير فأسير وأسبق القوم عدوا؛ فإني هاد بالطريق خريت» . قال : «أنت صاحبنا» .
فأعطاه بعيرا ونفقة وقال : «اطو أمرك» . فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبح ظهر الحرة صبح سادسة . ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دل عليه ، فعقل راحلته ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل . فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن هذا ليريد غدرا . والله تعالى حائل بينه وبين ما يريد» . فذهب ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجذبه بداخلة إزاره ، فإذا بالخنجر فسقط في يديه وقال : دمي دمي فأخذ أسيد بن الحضير بلببه فدعته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصدقني ما أنت ؟ » قال : «وأنا آمن ؟ » . قال : «نعم» . فأخبره بأمره وما جعل له أسيد أبو سفيان .
فخلى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم وقال : «يا محمد والله ما كنت أفرق الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ، ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان ولم يعلمه أحد ، فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان» . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم . فأقام الرجل أياما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج ولم يسمع له بذكر .
وروى الإمام عن إسحاق بن راهويه رضي الله تعالى عنه قال : عمرو بن أمية «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث معي رجلا من الأنصار» - قال ابن هشام : هو سلمة بن أسلم بن حريس الله إلى وقال : «إن أصبتما فيه غرة فاقتلاه» أبي سفيان بن حرب ، . وقال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن إسحاق عمرا بعد مقتل وأصحابه وبعث معه خبيب بن عدي جبار بن صخر الأنصاري ، فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج . ثم دخلا مكة ليلا ، فقال جبار- أو سلمة- لعمرو : «لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين» . فقال عمرو : «إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم وإنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق» . فقال : «كلا؛ إن [ ص: 124 ] شاء الله» . فقال عمرو : «فأبى أن يطيعني» . [قال عمرو] : فطفنا بالبيت وصلينا ، ثم خرجنا نريد أبا سفيان ، فو الله إنا لنمشي بمكة إذ نظر إلي رجل من أهل مكة فعرفني . قال ابن سعد : هو فقال معاوية بن أبي سفيان . معاوية : «عمرو بن أمية فوالله إن قدمها إلا لشر» . فأخبر قريشا بمكانه فخافوه وطلبوه وكان فاتكا في الجاهلية ، وقالوا : «ولم يأت عمرو بخير» . فحشدوا له وتجمعوا . قال عمرو : «فقلت لصاحبي : «النجاء» . فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل ، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا فيه وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا ، فلما أصبحنا غدا رجل من قريش . قال ابن سعد : هو عبيد الله بن مالك بن عبيد الله التميمي . قلت : قال : هو ابن إسحاق عثمان بن مالك أو عبد الله . يقود فرسا له ويخلي عليها فغشينا ونحن في الغار ، فقلت : إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا . قال : ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه ضربة ، وصاح صيحة فأسمع أهل مكة ، وأرجع فأدخل مكاني . وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا : من ضربك ؟ فقال وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا . ولفظ رواية عمرو بن أمية : فما أدركوا منه ما استطاع أن يخبرهم بمكاننا . فاحتملوه؛ فقلت لصاحبي لما أمسينا : النجاء . إسحاق بن راهويه :
فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة فقال أحدهم : «والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية خبيب بن عدي ، لولا أنه عمرو بن أمية ، بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية» . قال : فلما حاذى الخشبة شد عليها فاحتملها وخرجا شدا ، وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج ، فرمى بالخشبة في الجرف فغيبه الله تعالى عنهم فلم يقدروا عليه .
ولفظ رواية : ثم خرجنا فإذا نحن ابن إسحاق بخبيب على خشبة فقال لي صاحبي :
«هل لك أن تنزل عن خشبته ؟ » قلت : «نعم فتنح عني فإن أبطأت فخذ الطريق» فعمدت خبيبا لخبيب فأنزلته عن خشبته ، فحملته على ظهري ، فما مشيت به عشرين ذراعا حتى نذر بي الحرس .
ولفظ ابن أبي شيبة ، وأحمد بن عمرو : «فخليت فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد فالتفت فلم أر خبيبا ، وكأنما الأرض ابتلعته فما رئي خبيبا لخبيب رمة حتى الساعة» . قال :
«وقلت لصاحبي : «النجاء النجاء! حتى تأتي بعيرك فتقعد عليه ، وكان الأنصاري لا رجلة له» . قال :
«ومضيت حتى أخرج على ضجنان ، ثم أويت إلى جبل فأدخل كهفا فبينا أنا فيه إذ دخل علي شيخ من بني الديل أعور في غنيمة له فقال : «من الرجل ؟ » فقلت : «من بني بكر ، فمن أنت ؟ » قال : «من بني بكر» . فقلت : «مرحبا» فاضطجع ثم رفع عقيرته فقال :
ولست بمسلم ما دمت حيا ولا دان بدين المسلمين
[ ص: 125 ] فقلت في نفسي : سيعلم . فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي فجعلت سيتها في عينه الصحيحة ، ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم ، ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ، ثم سلكت ركوبة حتى إذا هبطت النقيع إذا رجلان من مشركي قريش كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتجسسان ، فقلت : «استأسرا» . فأبيا ، فأرمي أحدهما بسهم فأقتله ، واستأسر الآخر ، فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة . وجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ، ثم دعا له بخير .