قال أبو جعفر : يعني بذلك جل وعز : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدقون بها ، ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه ، ولا أذى منهم لهم بها ، ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده ( كمثل جنة ) .
" والجنة " : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن " الجنة " البستان ، بما فيه الكفاية من إعادته .
( بربوة ) والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك - جل ثناؤه - لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رق منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :
ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
[ ص: 536 ]فوصفها بأنها من رياض الحزن ؛ لأن الحزون : غروسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها .
وفي " الربوة " لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القرأة ، وهي " ربوة " بضم الراء ، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق .
و " ربوة " بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم . " وربوة " بكسر الراء ، وبها قرأ - فيما ذكر - ابن عباس .
قال أبو جعفر : وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح " الراء " وإما بضمها ؛ لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثارا مني بفتحها ؛ لأنها أشهر اللغتين في العرب . فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة .
وإنما سميت " الربوة " لأنها " ربت " فغلظت وعلت ، من قول القائل : " ربا هذا الشيء يربو " إذا انتفخ فعظم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6074 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) ، قال : الربوة المكان الظاهر المستوي . [ ص: 537 ]
6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة .
6076 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( كمثل جنة بربوة ) يقول بنشز من الأرض .
6077 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل جنة بربوة ) والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، والذي فيه الجنان .
6078 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قوله : ( بربوة ) برابية من الأرض . السدي
6079 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( كمثل جنة بربوة ) ، والربوة النشز من الأرض .
6080 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال قال ابن جريج ، ابن عباس : ( كمثل جنة بربوة ) قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .
وكان آخرون يقولون : هي المستوية .
ذكر من قال ذلك :
6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه .
قال أبو جعفر : وأما قوله : ( أصابها وابل ) فإنه يعني جل ثناؤه : أصاب [ ص: 538 ] الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه .
وقوله : ( فآتت أكلها ضعفين ) ، فإنه يعني الجنة : أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر .
" والأكل " : هو الشيء المأكول ، وهو مثل " الرعب والهزء " وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على " فعل " . وأما " الأكل " بفتح " الألف " وتسكين " الكاف " فهو فعل الآكل ، يقال منه : " أكلت أكلا وأكلت أكلة واحدة " كما قال الشاعر :
وما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام
ففتح " الألف " لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : " ولا جوعة " . وإن ضمت الألف من " الأكلة " كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيكون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة . [ ص: 539 ]
وأما قوله : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) فإن " الطل " هو الندى واللين من المطر كما : -
6082 - حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا حجاج قال : قال : ( فطل ) ندى عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ابن عباس .
6083 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : أما " الطل " فالندى . السدي
6084 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) ، أي طش .
6085 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فطل ) قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني : اللين منه .
6086 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فطل ) أي طش .
قال أبو جعفر : وإنما يعني - تعالى ذكره - بهذا المثل : كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل ، فإن أخطأ هذا الوابل فالطل كذلك يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير من ولا أذى ، قلت نفقته أو كثرت ، لا تخيب ولا تخلف نفقته ، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها ، قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6087 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قوله : ( السدي فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) يقول : كما أضعفت [ ص: 540 ] ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين .
6088 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال ، إما وابل ، وإما طل .
6089 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله .
6090 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ) . الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن .
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟
قيل : يراد فيه " كان " ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابل أصابها ، أصابها طل . وذلك في الكلام نحو قول القائل : " حبست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته " بمعنى : " إلا أكن " - لا بد من إضمار " كان " لأنه خبر . ومنه قول الشاعر : .
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا