الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها وصلى أبو موسى في دار البريد والسرقين والبرية إلى جنبه فقال ها هنا وثم سواء

                                                                                                                                                                                                        231 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب أبوال الإبل والدواب والغنم ) والمراد بالدواب معناه العرفي وهو ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير ويحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص ثم عطف الخاص على العام والأول أوجه ، [ ص: 401 ] ولهذا ساق أثر أبي موسى في صلاته في دار البريد ; لأنها مأوى الدواب التي تركب ، وحديث العرنيين ليستدل به على طهارة أبوال الإبل ، وحديث مرابض الغنم ليستدل به على ذلك أيضا منها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومرابضها ) جمع مربض بكسر أوله وفتح الموحدة بعدها معجمة وهي للغنم كالمعاطن للإبل والضمير يعود على أقرب مذكور وهو الغنم . ولم يفصح المصنف بالحكم كعادته في المختلف فيه لكن ظاهر إيراده حديث العرنيين يشعر باختياره الطهارة ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر ولم يذكر سوى بول الناس وإلى ذلك ذهب الشعبي وابن علية وداود وغيرهم وهو يرد على من نقل الإجماع على نجاسة بول غير المأكول مطلقا وقد قدمنا ما فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وصلى أبو موسى ) هو الأشعري وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له قال : حدثنا الأعمش عن مالك بن الحارث - هو السلمي الكوفي - عن أبيه قال " صلى بنا أبو موسى في دار البريد وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب فقالوا : لو صليت على الباب " فذكره . والسرقين بكسر المهملة وإسكان الراء هو الزبل وحكى فيه ابن سيده فتح أوله وهو فارسي معرب ، ويقال له السرجين بالجيم وهو في الأصل حرف بين القاف والجيم يقرب من الكاف ، والبرية الصحراء منسوبة إلى البر ، ودار البريد المذكورة موضع بالكوفة كانت الرسل تنزل فيه إذا حضرت من الخلفاء إلى الأمراء وكان أبو موسى أميرا على الكوفة في زمن عمر وفي زمن عثمان وكانت الدار في طرف البلد ولهذا كانت البرية إلى جنبها . وقال المطرزي : البريد في الأصل الدابة المرتبة في الرباط ثم سمي به الرسول المحمول عليها : ثم سميت به المسافة المشهورة .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة : ذكر البخاري في تاريخه : همدان بريد عمر وهو يروي عن عمر ، وله أثر ذكره المصنف تعليقا عن عمير كما سيأتي تخريجه من طريقه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سواء ) يريد أنهما متساويان في صحة الصلاة وتعقب بأنه ليس فيه دليل على طهارة أرواث الدواب عند أبي موسى ; لأنه يمكن أن يصلي فيها على ثوب يبسطه . وأجيب بأن الأصل عدمه وقد رواه سفيان الثوري في جامعه عن الأعمش بسنده ولفظه " صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين " وهذا ظاهر في أنه بغير حائل ، وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب وغيره أن الصلاة على الطنفسة محدث وإسناده صحيح . والأولى أن يقال إن هذا من فعل أبي موسى وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره فلا يكون حجة . أو لعل أبا موسى كان لا يرى الطهارة شرطا في صحة الصلاة بل يراها واجبة برأسها وهو مذهب مشهور . وقد تقدم مثله في قصة الصحابي الذي صلى بعد أن جرح وظهر عليه الدم الكثير فلا يكون فيه حجة على أن الروث طاهر كما أنه لا حجة في ذاك على أن الدم طاهر ، وقياس غير المأكول على المأكول غير واضح ; لأن الفرق بينهما متجه لو ثبت أن روث المأكول طاهر وسنذكر ما فيه قريبا . والتمسك بعموم حديث أبي هريرة الذي صححه ابن خزيمة وغيره مرفوعا بلفظ " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " أولى ; لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال [1] فيجب اجتنابها لهذا الوعيد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 402 ] قوله : ( عن أيوب عن أبي قلابة ) كذا رواه البخاري وتابعه أبو داود عن سليمان بن حرب وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن أبي داود السجستاني وأبي داود الحراني وأبو نعيم في المستخرج من طريق يوسف القاضي كلهم عن سليمان ، وخالفهم مسلم فأخرجه عن هارون بن عبد الله عن سليمان بن حرب وزاد بين أيوب وأبي قلابة أبا رجاء مولى أبي قلابة ، وكذا أخرجه أبو عوانة عن أبي أمية الطرسوسي عن سليمان وقال الدارقطني وغيره : ثبوت أبي رجاء وحذفه - في حديث حماد بن زيد عن أيوب - صواب ; لأن أيوب حدث به عن أبي قلابة بقصة العرنيين خاصة ، وكذا رواه أكثر أصحاب حماد بن زيد عنه مقتصرين عليها وحدث به أيوب أيضا عن أبي رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة وزاد فيه قصة طويلة لأبي قلابة مع عمر بن عبد العزيز كما سيأتي ذلك في كتاب الديات ووافقه على ذلك حجاج الصواف عن أبي رجاء فالطريقان جميعا صحيحان والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أنس ) زاد الأصيلي " ابن مالك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قدم أناس ) وللأصيلي والكشميهني والسرخسي " ناس " أي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصرح به المصنف في الديات من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( من عكل أو عرينة ) الشك فيه من حماد وللمصنف في المحاربين عن قتيبة عن حماد " أن رهطا من عكل أو قال من عرينة ولا أعلمه إلا قال من عكل " وله في الجهاد عن وهيب عن أيوب " أن رهطا من عكل " ولم يشك وكذا في المحاربين عن يحيى بن أبي كثير وفي الديات عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة وله في الزكاة عن شعبة عن قتادة عن أنس " أن ناسا من عرينة " ولم يشك أيضا وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس وفي المغازي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة " أن ناسا من عكل وعرينة " بالواو العاطفة وهو الصواب ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال : كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل ولا يخالف هذا ما عند المصنف في الجهاد من طريق وهيب عن أيوب وفي الديات من طريق حجاج الصواف عن أبي رجاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس " أن رهطا من عكل ثمانية " لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين وكان من أتباعهم فلم ينسب وغفل من نسب عدتهم ثمانية لرواية أبي يعلى وهي عند البخاري وكذا عند مسلم وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل وهو غلط ، بل هما قبيلتان متغايرتان : عكل من عدنان وعرينة من قحطان .

                                                                                                                                                                                                        وعكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب . وعرينة بالعين والراء المهملتين والنون مصغر حي من قضاعة وحي من بجيلة ، والمراد هنا الثاني كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس ووقع عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة بإسناد ساقط أنهم من بني فزارة . وهو غلط ; لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل ولا مع عرينة أصلا .

                                                                                                                                                                                                        وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد وكانت في جمادى الآخرة سنة ست . وذكرها المصنف بعد الحديبية وكانت في ذي القعدة منها ، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما والله أعلم . وللمصنف في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 403 ] قوله : ( فاجتووا المدينة ) زاد في رواية يحيى بن أبي كثير قبل هذا " فأسلموا " وفي رواية أبي رجاء قبل هذا " فبايعوه على الإسلام " قال ابن فارس : اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة . وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه القصة . وقال القزاز : اجتووا أي لم يوافقهم طعامها وقال ابن العربي : الجوى داء يأخذ من الوباء . وفي رواية أخرى يعني رواية أبي رجاء المذكورة " استوخموا " قال وهو بمعناه . وقال غيره : الجوى داء يصيب الجوف . وللمصنف من رواية سعيد عن قتادة في هذه القصة " فقالوا : يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف " . وله في الطب من رواية ثابت عن أنس " أن ناسا كان بهم سقم قالوا : يا رسول الله آونا وأطعمنا فلما صحوا قالوا : إن المدينة وخمة " . والظاهر أنهم قدموا سقاما فلما صحوا من السقم كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها ، فأما السقم الذي كان بهم فهو الهزال الشديد والجهد من الجوع فعند أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس " كان بهم هزال شديد " وعنده من رواية أبي سعد عنه " مصفرة ألوانهم " . وأما الوخم الذي شكوا منه بعد أن صحت أجسامهم فهو من حمى المدينة كما عند أحمد من رواية حميد عن أنس وسيأتي ذكر حمى المدينة من حديث عائشة في الطب وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الله أن ينقلها إلى الجحفة . ووقع عند مسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس " وقع بالمدينة الموم " أي بضم الميم وسكون الواو قال : وهو البرسام أي بكسر الموحدة سرياني معرب أطلق على اختلال العقل وعلى ورم الرأس وعلى ورم الصدر والمراد هنا الأخير . فعند أبي عوانة من رواية همام عن قتادة عن أنس في هذه القصة " فعظمت بطونهم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمرهم بلقاح ) أي فأمرهم أن يلحقوا بها وللمصنف في رواية همام عن قتادة " فأمرهم أن يلحقوا براعيه " وله عن قتيبة عن حماد " فأمر لهم بلقاح " ; بزيادة اللام فيحتمل أن تكون زائدة أو للتعليل أو لشبه الملك أو للاختصاص وليست للتمليك وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها " أنهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح فقالوا : يا رسول الله قد وقع هذا الوجع فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل " وللمصنف من رواية وهيب عن أيوب أنهم قالوا " يا رسول الله أبغنا رسلا " أي اطلب لنا لبنا " قال ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود " وفي رواية أبي رجاء " هذه نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها " . واللقاح باللام المكسورة والقاف وآخره مهملة : النوق ذوات الألبان واحدها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف وقال أبو عمرو : يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر ثم هي لبون وظاهر ما مضى أن اللقاح كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصرح بذلك في المحاربين عن موسى عن وهيب بسنده فقال " إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وله فيه من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بسنده فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة وكذا في الزكاة من طريق شعبة عن قتادة ، والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاحه إلى المرعى ما طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه فخرجوا معه إلى الإبل ففعلوا ما فعلوا وظهر بذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - إن المدينة تنفي خبثها وسيأتي في موضعه .

                                                                                                                                                                                                        وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه - صلى الله عليه وسلم - كانت خمس عشرة وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها الحناء وهو في ذلك متابع للواقدي وقد ذكره الواقدي في المغازي بإسناد ضعيف مرسل .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 404 ] قوله : ( وأن يشربوا ) أي وأمرهم أن يشربوا وله في رواية أبي رجاء فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها بصيغة الأمر ، وفي رواية شعبة عن قتادة فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا فأما شربهم ألبان الصدقة فلأنهم من أبناء السبيل ، وأما شربهم لبن لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - فبإذنه المذكور ، وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته أما من الإبل فبهذا الحديث وأما من مأكول اللحم فبالقياس عليه ، وهذا قول مالك وأحمد وطائفة من السلف ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والإصطخري والروياني ، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره ، واحتج ابن المنذر لقوله بأن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة قال : ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام لم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل قال : وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير دليل على طهارتها .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو استدلال ضعيف ; لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلا عن طهارته ، وقد دل على نجاسة الأبوال كلها حديث أبي هريرة الذي قدمناه قريبا وقال ابن العربي : تعلق بهذا الحديث من قال بطهارة أبوال الإبل وعورضوا بأنه أذن لهم في شربها للتداوي وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة بدليل أنه لا يجب فكيف يباح الحرام لما لا يجب ؟ وأجيب بمنع أنه ليس حال ضرورة بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره وما أبيح للضرورة لا يسمى حراما وقت تناوله لقوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فما اضطر إليه المرء فهو غير محرم عليه كالميتة للمضطر والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وما تضمنه كلامه من أن الحرام لا يباح إلا لأمر واجب غير مسلم ، فإن الفطر في رمضان حرام ومع ذلك فيباح لأمر جائز كالسفر مثلا . وأما قول غيره لو كان نجسا ما جاز التداوي به لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " رواه أبو داود من حديث أم سلمة وستأتي له طريق أخرى في الأشربة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والنجس حرام فلا يتداوى به ; لأنه غير شفاء فجوابه أن الحديث محمول على حالة الاختيار ، وأما في حال الضرورة فلا يكون حراما كالميتة للمضطر ولا يرد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر إنها ليست بدواء إنها داء في جواب من سأله عن التداوي بها فيما رواه مسلم فإن ذلك خاص بالخمر ويلتحق به غيرها من المسكر ، والفرق بين المسكر وبين غيره من النجاسات أن الحد يثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره ; ولأن شربه يجر إلى مفاسد كثيرة ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف معتقدهم ، قاله الطحاوي بمعناه .

                                                                                                                                                                                                        وأما أبوال الإبل فقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعا " أن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم " والذرب فساد المعدة ، فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه والله أعلم . وبهذه الطريقة يحصل الجمع بين الأدلة [2] ، والعمل بمقتضاها كلها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما صحوا ) في السياق حذف تقديره " فشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا " . وقد ثبت [ ص: 405 ] ذلك في رواية أبي رجاء وزاد في رواية وهيب " وسمنوا " وللإسماعيلي من رواية ثابت " ورجعت إليهم ألوانهم " .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( واستاقوا النعم ) من السوق وهو السير العنيف .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( فجاء الخبر ) في رواية وهيب عن أيوب " الصريخ " بالخاء المعجمة وهو فعيل بمعنى فاعل أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم ، وهذا الصارخ أحد الراعيين كما ثبت في صحيح أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة عن أنس ، وقد أخرج مسلم إسناده ولفظه " فقتلوا أحد الراعيين وجاء الآخر قد جزع فقال : قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل " واسم راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - المقتول يسار بياء تحتانية ثم مهملة خفيفة كذا ذكره ابن إسحاق في المغازي ورواه الطبراني موصولا من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالح قال " كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلام يقال له يسار " زاد ابن إسحاق " أصابه في غزوة بني ثعلبة " قال سلمة " فرآه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها " فذكر قصة العرنيين وأنهم قتلوه ولم أقف على تسمية الراعي الآتي بالخبر ، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي ذكره بالإفراد ، وكذا لمسلم لكن عنده من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس " ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم " بصيغة الجمع ، ونحوه لابن حبان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رعاة فقتل بعضهم مع راعي اللقاح فاقتصر بعض الرواة على راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعضهم معه غيره ويحتمل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع ، وهذا أرجح ; لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فبعث في آثارهم ) زاد في رواية الأوزاعي " الطلب " وفي حديث سلمة بن الأكوع " خيلا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري " وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون وهو بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي وللنسائي من رواية الأوزاعي " فبعث في طلبهم قافة " أي جمع قائف ولمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلا وبعث معهم قائفا يقتص آثارهم ولم أقف على اسم هذا القائف ولا على اسم واحد من العشرين لكن في مغازي الواقدي أن السرية كانت عشرين رجلا ولم يقل من الأنصار بل سمى منهم جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان وغيرهم ، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف لكن يحتمل أن يكون من لم يسمه الواقدي من الأنصار فأطلق الأنصار تغليبا أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعم .

                                                                                                                                                                                                        وفي مغازي موسى بن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد كذا عنده بزيادة ياء والذي ذكره غيره أنه سعد بسكون العين بن زيد الأشهلي وهذا أيضا أنصاري فيحتمل أنه كان رأس الأنصار وكان كرز أمير الجماعة . وروى الطبري وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في آثارهم لكن إسناده ضعيف والمعروف أن جريرا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما ارتفع ) فيه حذف تقديره فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا فلما ارتفع النهار جيء بهم أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أسارى .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 406 ] قوله : ( فأمر بقطع ) كذا للأصيلي والمستملي والسرخسي وللباقين فقطع أيديهم وأرجلهم قال الداودي : يعني قطع يدي كل واحد ورجليه . قلت : ترده رواية الترمذي " من خلاف " وكذا ذكره الإسماعيلي عن الفريابي عن الأوزاعي بسنده وللمصنف من رواية الأوزاعي أيضا " ولم يحسمهم " أي لم يكو ما قطع منهم بالنار لينقطع الدم بل تركه ينزف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وسمرت أعينهم ) تشديد الميم وفي رواية أبي رجاء " وسمر " بتخفيف الميم ولم تختلف روايات البخاري في أنه بالراء ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز " وسمل " بالتخفيف واللام قال الخطابي السمل : فقء العين بأي شيء كان قال أبو ذؤيب الهذلي :

                                                                                                                                                                                                        والعين بعدهم كأن حداقها سملت بشوك فهي عور تدمع

                                                                                                                                                                                                        قال : والسمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب . قال : وقد يكون من المسمار يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت . قلت : قد وقع التصريح بالمراد عند المصنف من رواية وهيب عن أيوب ومن رواية الأوزاعي عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ولفظه " ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها " فهذا يوضح ما تقدم ولا يخالف ذلك رواية السمل ; لأنه فقء العين بأي شيء كان كما مضى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وألقوا في الحرة ) هي أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة وإنما ألقوا فيها ; لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( يستسقون فلا يسقون ) زاد وهيب والأوزاعي " حتى ماتوا " وفي رواية أبي رجاء " ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا " وفي رواية شعبة عن قتادة " يعضون الحجارة " وفي الطب من رواية ثابت قال أنس " فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت " ولأبي عوانة من هذا الوجه " يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة " . وزعم الواقدي أنهم صلبوا والروايات الصحيحة ترده .

                                                                                                                                                                                                        لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل عن أنس " فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين " كذا ذكر ستة فقط فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزعة . ومال جماعة منهم ابن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص ; لما عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس " إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعينهم ; لأنهم سملوا أعين الرعاة " وقصر من اقتصر في عزوه للترمذي والنسائي وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة في حقهم وقعت من جهات وليس في الحديث إلا السمل فيحتاج إلى ثبوت البقية . قلت : كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة : هذا الحديث ينسخ كل مثلة .

                                                                                                                                                                                                        وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ . قلت : يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي . وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود ولموسى بن عقبة في المغازي : وذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة وإلى هذا مال البخاري وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى [ ص: 407 ] لا يمنع وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا وقع منه نهي عن سقيهم . انتهى . وهو ضعيف جدا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وسكوته كاف في ثبوت الحكم .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيمم بل يستعمله ولو مات المرتد عطشا وقال الخطابي : إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ذلك ; لأنه أراد بهم الموت بذلك وقيل : إن الحكمة في تعطيشهم ; لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالعطش على من عطش آل بيته في قصة رواها النسائي فيحتمل أن يكونوا في تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من لقاحه في كل ليلة كما ذكر ذلك ابن سعد والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا ) أي لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها وهذا قاله أبو قلابة استنباطا .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( وقتلوا ) أي الراعي كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكفروا ) هو في رواية سعيد عن قتادة عن أنس في المغازي وكذا في رواية وهيب عن أيوب في الجهاد في أصل الحديث وليس موقوفا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم وكذا قوله " وحاربوا " ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث " وهربوا محاربين " وستأتي قصة أبي قلابة في هذا الحديث مع عمر بن عبد العزيز في مسألة القسامة من كتاب الديات إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم : قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم . وفيه مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها . وفيه أن كل جسد يطبب بما اعتاده وفيه قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة إن قلنا إن قتلهم كان قصاصا وفيه المماثلة في القصاص وليس ذلك من المثلة المنهي عنها وثبوت حكم المحاربة في الصحراء وأما في القرى ففيه خلاف وفيه جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسا عليه بإذن الإمام وفيه العمل بقول القائف وللعرب في ذلك المعرفة التامة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية