الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          391 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى وأبو داود قالا حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم أن أبا هريرة وعبد الله بن السائب القارئ كانا يسجدان سجدتي السهو قبل التسليم قال أبو عيسى حديث ابن بحينة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي يرى سجدتي السهو كله قبل السلام ويقول هذا الناسخ لغيره من الأحاديث ويذكر أن آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان على هذا وقال أحمد وإسحق إذا قام الرجل في الركعتين فإنه يسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث ابن بحينة وعبد الله ابن بحينة هو عبد الله بن مالك وهو ابن بحينة مالك أبوه وبحينة أمه هكذا أخبرني إسحق بن منصور عن علي بن عبد الله بن المديني قال أبو عيسى واختلف أهل العلم في سجدتي السهو متى يسجدهما الرجل قبل السلام أو بعده فرأى بعضهم أن يسجدهما بعد السلام وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وقال بعضهم يسجدهما قبل السلام وهو قول أكثر الفقهاء من أهل المدينة مثل يحيى بن سعيد وربيعة وغيرهما وبه يقول الشافعي وقال بعضهم إذا كانت زيادة في الصلاة فبعد السلام وإذا كان نقصانا فقبل السلام وهو قول مالك بن أنس وقال أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو فيستعمل كل على جهته يرى إذا قام في الركعتين على حديث ابن بحينة فإنه يسجدهما قبل السلام وإذا صلى الظهر خمسا فإنه يسجدهما بعد السلام وإذا سلم في الركعتين من الظهر والعصر فإنه يسجدهما بعد السلام وكل يستعمل على جهته وكل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فإن سجدتي السهو قبل السلام وقال إسحق نحو قول أحمد في هذا كله إلا أنه قال كل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فإن كانت زيادة في الصلاة يسجدهما بعد السلام وإن كان نقصانا يسجدهما قبل السلام

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أخبرنا عبد الأعلى وأبو داود ) وأبو داود هذا هو أبو داود الطيالسي واسمه سليمان بن داود ، وأما عبد الأعلى فهو ابن عبد الأعلى بن محمد البصري الشامي روى عن هشام الدستوائي وخلق وعنه بندار وغيره قال ابن معين وأبو زرعة : ثقة وقال النسائي : لا بأس به ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كان متقنا في الحديث قدريا غير داعية إليه ( قالا أخبرنا هشام ) هو هشام بن أبي عبد سنبر الدستوائي ثقة ثبت روى عنه أبو داود الطيالسي وقال : كان أمير المؤمنين في الحديث ( عن محمد بن إبراهيم ) التيمي المدني ثقة .

                                                                                                          قوله : ( أن أبا هريرة والسائب القاري كانا يسجدان سجدتي السهو قبل التسليم ) وذكر الحافظ العراقي أبا هريرة فيمن ذهب إلى أن سجود السهو كله بعد التسليم ، قال وروى الترمذي عنه خلاف ذلك .

                                                                                                          قوله : ( حديث ابن بحينة حديث حسن ) بل هو صحيح أخرجه الشيخان .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي يرى سجود السهو كله قبل التسليم ) قال الحازمي في كتاب الاعتبار : وممن رأى السجود كله قبل التسليم أبو هريرة ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي وأهل الشام [ ص: 338 ] والليث بن سعد وهو مذهب الشافعي ، انتهى ( ويقول ) أي الشافعي ( هذا الناسخ لغيره من الأحاديث ويذكر أن آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان على هذا ) قال الشافعي : أخبرنا مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري قال : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده وآخر الأمرين قبل السلام ، ثم أكده الشافعي برواية معاوية بن أبي سفيان : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدهما قبل السلام . قال : وصحبة معاوية متأخرة ذكره الحازمي في كتاب الاعتبار ، ثم قال وطريق الإنصاف أن نقول : أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ ففيه انقطاع فلا يقع معارضا للأحاديث الثابتة ، وأما بقية الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولا وفعلا فهي وإن كانت صحيحة ثابتة ففيها نوع تعارض غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة ، والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين ، انتهى كلام الحازمي . ورواية معاوية التي أشار إليها الحازمي أخرجها هو بلفظ : إن معاوية بن أبي سفيان صلى بهم فنسي وقام وعليه جلوس فلم يجلس ، فلما كان آخر صلاته سجد سجدتين قبل التسليم ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ( وقال أحمد وإسحاق : إذا قام الرجل في الركعتين فإنه يسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث ابن بحينة ) يأتي تحرير مذهبهما في هذا الكتاب ( وعبد الله ابن بحينة هو عبد الله بن مالك ) بالتنوين ( ابن بحينة ) بالألف ( مالك أبوه وبحينة أمه ) فيجب أن يكتب ألف ابن وينون مالك ليندفع الوهم ويعرف أن ابن بحينة نعت لعبد الله لا لمالك : قال الحافظ في الفتح : بحينة اسم أمه أو أم أبيه ، وعلى هذا فينبغي أن يكتب ابن بحينة بألف ، انتهى . ( فرأى بعضهم أن يسجدهما بعد السلام وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة ) قال الحازمي في كتاب الاعتبار : طائفة رأت السجود كله بعد السلام ، وممن روينا ذلك عنه من [ ص: 339 ] الصحابة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ، ومن التابعين الحسن وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأهل الكوفة ، انتهى . واستدلوا بالأحاديث التي ذكر فيها السجود بعد السلام ، وأنت تعلم أنه لا حجة فيها في كون جميعه كذلك ( وقال بعضهم يسجدهما قبل السلام وهو قول أكثر الفقهاء إلخ ) قال الحازمي في كتاب الاعتبار : وممن رأى السجود كله قبل السلام أبو هريرة ومكحول والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وهو مذهب الشافعي ( وقال بعضهم : إذا كانت زيادة في الصلاة فبعد السلام وإذا كان نقصان فقبل السلام . وهو قول مالك بن أنس ) وهو قول المزني وأبي ثور من الشافعية ، وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره للجمع بين الخبرين قال : وهو موافق للنظر ؛ لأنه في النقص جبر فينبغي أن يكون من أصل الصلاة وفي الزيادة ترغيم للشيخان فيكون خارجها . وقال ابن دقيق العيد : لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة ، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وقفهما كانت علة فيعم الحكم جميع محالها فلا تخصص إلا بنص .

                                                                                                          وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل ، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى ، وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيما للشيطان في حالة الشك كما في حديث أبي سعيد عند مسلم ، وقال الخطابي : لم يرجح من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح . وأيضا فقصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام وهي عن نقصان كذا في فتح الباري ( وقال أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيستعمل ) على البناء للمفعول ( كل ) أي كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( على جهته ) أي على جهة ما روي ( يرى إذا قام في الركعتين على حديث ابن بحينة فإنه يسجدها قبل السلام ) هذا تفصيل لقوله فيستعمل كل على جهته ويرى بمعنى يعتقد أن يرى الإمام أحمد أنه إذا قام الرجل في الرباعية أو الثلاثية في الركعتين سهوا ولم [ ص: 340 ] يجلس فإنه يسجد سجدتي السهو قبل السلام كما في حديث عبد الله ابن بحينة ( وإذا صلى الظهر خمسا فإنه يسجدهما بعد السلام كما في حديث عبد الله بن مسعود الآتي وإذا سلم في الركعتين من الظهر والعصر فإنه يسجدهما بعد السلام ) كما في حديث ذي اليدين ، والمواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة : أحدها قام من ثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة ، والثاني سلم في ثنتين كما جاء في حديث ذي اليدين ، والثالث سلم من ثلاث كما جاء في حديث عمران بن حصين ، والرابع أنه صلى خمسا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ، والخامس السجود على الشك كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري ، كذا ذكره العيني في شرح البخاري .

                                                                                                          قلت : هذا إذا كانت واقعة حديث ذي اليدين غير واقعة حديث عمران بن حصين ، وأما إذا كانتا واحدة فالمواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة ( وكل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فإن سجدتي السهو فيه قبل السلام ) هذا آخر قول الإمام أحمد ، وحاصل قوله أنه يستعمل كل حديث فيما ورد فيه ، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام ، وقال : لولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله قبل السلام ؛ لأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام كذا في فتح الباري ( وقال إسحاق نحو قول أحمد في هذا كله إلا أنه قال : كل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر إلخ ) حرر إسحاق مذهبه من قول أحمد وإسحاق . قال الحافظ : وهو أعدل المذاهب فيما يظهر ، انتهى . وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر ثمانية أقوال في هذه المسألة ما لفظه : وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من السجود قبل السلام وبعده ، فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله ، وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده ، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص ، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين . وجميع أسباب السجود لا تكون إلا زيادة أو نقصا أو مجموعهما ، قال : وهذا ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا ، انتهى كلام الشوكاني ، قلت : هذا هو أحسن الأقوال عندي والله تعالى أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية