الخليفة أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي المنصور ، وأمه سلامة البربرية .
ولد في سنة خمس وتسعين أو نحوها . ضرب في الآفاق ورأى البلاد ، وطلب العلم .
قيل : كان في صباه يلقب بمدرك التراب .
وكان أسمر طويلا نحيفا مهيبا ، خفيف العارضين ، معرق الوجه ، رحب الجبهة ، كأن عينيه لسانان ناطقان ، تخالطه أبهة الملك بزي النساك ، تقبله القلوب ، وتتبعه العيون ، أقنى الأنف ، بين القنا ، يخضب بالسواد .
وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة ، ورأيا وحزما ، ودهاء وجبروتا ، وكان جماعا للمال ، حريصا ، تاركا للهو واللعب ، كامل العقل ، بعيد الغور ، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم .
أباد جماعة كبارا حتى توطد له الملك ، ودانت له الأمم على ظلم فيه وقوة نفس ، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة ، وتصون وصلاة وخير ، مع فصاحة وبلاغة وجلالة . وقد ولي بليدة من فارس لعاملها سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة ، ثم عزله وضربه وصادره ، فلما استخلف قتله . وكان يلقب : أبا الدوانيق ، لتدنيقه ومحاسبته الصناع ، لما أنشأ بغداد . [ ص: 84 ]
وكان يبذل الأموال في الكوائن المخوفة ، ولا سيما لما خرج عليه محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة ، وأخوه إبراهيم بالبصرة .
قال أبو إسحاق الثعالبي : على شهرة المنصور بالبخل ، ذكر محمد بن سلام أنه لم يعط خليفة قبل المنصور عشرة آلاف ألف درهم ، دارت بها الصكاك ، وثبتت في الدواوين ، فإنه أعطى في يوم واحد ، كل واحد من عمومته عشرة آلاف ألف . وقيل : إنه خلف يوم موته في بيوت الأموال تسع مائة ألف ألف درهم ونيف .
زهير بن معاوية : حدثنا ميسرة بن حبيب ، عن ، عن المنهال بن عمرو سعيد بن جبير ، سمع ابن عباس يقول : منا السفاح ، ومنا المنصور ، ومنا المهدي . إسناده جيد .
روى إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده : أن أباه قال : قال لنا المنصور : رأيت كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عممني بعمامة كورها ثلاثة وعشرون ، وقال : خذها ، وأوصاني بأمته .
وعن المنصور قال : الملوك أربعة : معاوية ، وعبد الملك ، وهشام بن عبد الملك ، وأنا .
حج المنصور مرات ، منها في خلافته مرتين ، وفي الثالثة مات ببئر ميمون قبل أن يدخل مكة .
أبو العيناء : حدثنا الأصمعي : أن المنصور صعد المنبر ، فشرع ، فقام رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين! اذكر من أنت في ذكره . فقال : مرحبا ، لقد [ ص: 85 ] ذكرت جليلا ، وخوفت عظيما ، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له : اتق الله ، أخذته العزة بالإثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله : ما الله أردت ، إنما أردت أن يقال : قام ، فقال ، فعوقب ، فصبر ، فأهون بها من قائلها ، واهتبلها من الله ، ويلك إني قد غفرتها ! . وعاد إلى خطبته كأنما يقرأ من كتاب .
قال مبارك الطبري : حدثنا أبو عبيد الله الوزير ، سمع المنصور يقول : الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه .
وقيل : إن وعظ عمرو بن عبيد المنصور فأبكاه ، وكان يهاب عمرا ويكرمه ، وكان أمر له بمال فرده .
وقيل : إن عبد الصمد عمه قال : يا أمير المؤمنين ، لقد هجمت بالعقوبة ، حتى كأنك لم تسمع بالعفو . قال : لأن بني أمية لم تبل رممهم ، وآل علي لم تغمد سيوفهم ، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة ، ولا تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو .
وقيل : دخل عليه فقال : اقض ديني . قال : وكم هو ؟ . قال : مائة ألف ، قال : وأنت في فقهك وفضلك تأخذ مائة ألف ، ليس عندك قضاؤها ! ؟ قال : شب فتيان لي ، فأحببت أن أبوئهم ، وخشيت أن ينتشر علي أمرهم ، واتخذت لهم منازل ، وأولمت عليهم ، ثقة بالله وبأمير المؤمنين [ ص: 86 ] هشام بن عروة
قال : فردد عليه : مائة ألف ، استكثارا لها ، ثم قال : قد أمرنا لك بعشرة آلاف . قال : فأعطني ما تعطي وأنت طيب النفس ، فقد سمعت أبي يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعطى عطية وهو بها طيب النفس ، بورك للمعطي والمعطى " .
قال : فإني طيب النفس بها . فأهوى ليقبل يده ، فمنعه ، وقال : إنا نكرمك عنها ، ونكرمها عن غيرك .
وعن الربيع الحاجب قال : درنا في الخزائن بعد موت المنصور ، أنا والمهدي فرأينا في بيت أربع مائة حب مسددة الرءوس ، فيها أكباد مملحة معدة للحصار .
وقيل رأت جارية للمنصور قميصه مرقوعا ، فكلمته فقال : [ ص: 87 ]
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق ، وجيب قميصه مرقوع
.وعن المدائني : أن المنصور لما احتضر قال : اللهم إني قد ارتكبت عظائم ، جرأة مني عليك ، وقد أطعتك في أحب الأشياء إليك ، شهادة أن لا إله إلا الله ، منا منك لا منا عليك ، ثم مات . وقيل : رأى ما يدل على قرب موته ، فسار للحج . وقيل : مات مبطونا ، وعاش أربعا وستين سنة .
قال الصولي : دفن بين الحجون وبئر ميمون في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة .
قال عباد بن كثير لسفيان : قلت لأبي جعفر : أتؤمن بالله ؟ قال : نعم . قلت : حدثني عن الأموال التي اصطفيتموها من بني أمية ، فلئن صارت إليكم ظلما وغصبا ، فما رددتموها إلى أهلها الذين ظلموا ، ولئن كانت لبني أمية ، [ ص: 88 ] لقد أخذتم ما لا يحل لكم ، إذا دعيت غدا بنو أمية بالعدل ، جاءوا ، وإذا دعيتم أنتم ، لم تجيئوا بأحد ، فكن أنت ذاك الأحد ، فقد مضت من خلافتك ست عشرة سنة . قال : ما أجد أعوانا . قلت : عونك علي بلا مرزئة ، أنت تعلم أن بعمر بن عبد العزيز أبا أيوب المورياني يريد منك كل عام بيت مال ، وأنا أجيئك بمن يعمل بغير رزق ، آتيك ، وآتيك بالأوزاعي بالثوري ، وأنا أبلغك عن العامة . فقال : حتى أستكمل بناء بغداد ، وأوجه خلفك . فقال له سفيان : ولم ذكرتني له ؟ . قال : والله ما أردت إلا النصح . قال سفيان : ويل لمن دخل عليهم ، إذا لم يكن كبير العقل ، كثير الفهم ، كيف يكون فتنة عليهم وعلى الأمة .
قال نوبخت المجوسي : سجنت بالأهواز ، فرأيت المنصور وقد سجن - يعني وهو شاب - قال : فرأيت من هيبته وجلالته وحسنه ما لم أره لأحد ، فقلت : وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة ؟ فقال : لا ، ولكني من عرب المدينة . قال : فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته . فقال : أبو جعفر . قلت : وحق المجوسية لتملكن . قال : وما يدريك ! ؟ . قلت : هو كما أقول لك . وساق قصة . وقد كان المنصور يصغي إلى أقوال المنجمين ، وينفقون عليه ، وهذا من هناته مع فضيلته .
وقد خرج عليه في أول ولايته عمه عبد الله بن علي فرماه بنظيره [ ص: 89 ] أبي مسلم صاحب الدولة ، وقال : لا أبالي أيهما أصيب . فانهزم عمه ، وتلاشى أمره ، ثم فسد ما بينه وبين أبي مسلم ، فلم يزل يتحيل عليه ، حتى استأصله وتمكن .
ثم خرج عليه ابنا عبد الله بن حسن وكاد أن تزول دولته ، واستعد للهرب ، ثم قتلا في أربعين يوما ، وألقى عصاه ، واستقر .
وكان حاكما على ممالك الإسلام بأسرها ، سوى جزيرة الأندلس . وكان ينظر في حقير المال ويثمره ، ويجتهد بحيث إنه خلف في بيوت الأموال من النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار ، فيما قيل ، وست مائة ألف ألف درهم ، وكان كثيرا ما يتشبه بالثلاثة في سياسته وحزمه ، وهم : معاوية ، وعبد الملك ، وهشام .
وقيل : إنه أحس شغبا عند قتله أبا مسلم ، فخرج بعد أن فرق الأموال ، وشغلهم برأسه ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس ، لا تخرجوا من أنس الطاعة ، إلى وحشة المعصية ، ولا تسروا غش الأئمة ، يظهر الله ذلك على فلتات الألسنة ، وسقطات الأفعال ، فإن من نازعنا عروة قميص الإمامة ، أوطأناه ما في هذا الغمد ، وإن أبا مسلم بايعنا على أنه إن نكث بيعتنا ، فقد أباح دمه لنا ، ثم نكث ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره ، ولم يمنعنا رعاية حقه من إقامة الحق عليه ، فلا تمشوا في ظلمة الباطل ، بعد سعيكم في ضياء الحق ، ولو علم بحقيقة حال أبي مسلم ، لعنفنا على إمهاله من أنكر منا قتله والسلام .