الحسن بن يعقوب البخاري ، والأصم : قالا : حدثنا يحيى بن جعفر ، حدثنا ، حدثنا علي بن عاصم حاتم بن أبي صغيرة ، عن ، عن سماك بن حرب زيد بن صوحان أن رجلين من أهل الكوفة كانا له صديقين ، فأتياه ليكلم لهما [ ص: 526 ] سلمان ، ليحدثهما حديثه ، فأقبلا معه ، فلقوا سلمان بالمدائن أميرا ، وإذا هو على كرسي ، وإذا خوص بين يديه وهو يرتقه . قالا : فسلمنا عليه وقعدنا ، فقال له زيد : يا أبا عبد الله ، كيف كان بدء إسلامك ؟ قال : كنت يتيما من رامهرمز ، وكان ابن دهقانها يختلف إلى معلم يعلمه ، فلزمته لأكون في كنفه ، وكان لي أخ أكبر مني ، وكان مستغنيا بنفسه ، وكنت غلاما ، وكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظهم ، فإذا تفرقوا ، خرج فقنع رأسه بثوبه ثم صعد الجبل ، كان يفعل ذلك غير مرة متنكرا .
فقلت له : إنك تفعل كذا وكذا ، فلم لا تذهب بي معك ؟ قال : أنت غلام ، وأخاف أن يظهر منك شيء . قلت : لا تخف . قال : فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح ، يزعمون أنا عبدة النيران وعبدة الأوثان ، وأنا على غير دينهم . قلت : فاذهب بي معك إليهم ، قال : لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم ، أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم ، أو فيقتل القوم ، فيكون هلاكهم على يدي ، قلت : لن يظهر مني ذلك ، فاستأمرهم ، فقال : غلام عندي يتيم أحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم .
قالوا : إن كنت تثق به ، قال : أرجو ، قال : فقال لي : ائتني في الساعة التي رأيتني أخرج فيها ، ولا يعلم بك أحد . فلما كانت الساعة تبعته ، فصعد الجبل ، فانتهينا إليهم ، قال : أراه قال : وهم ستة أو سبعة ، قال : وكأن الروح قد خرج منهم من العبادة ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، ويأكلون عند السحر ما وجدوا . فقعدنا إليهم ، فتكلموا ، فحمدوا الله ، وذكروا من مضى من الأنبياء والرسل حتى خلصوا إلى ذكر عيسى ، فقالوا : بعث الله علي بن عاصم عيسى رسولا ، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكفر به قوم ، وتبعه قوم ، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به [ ص: 527 ] خلقه . وقالوا قبل ذلك : يا غلام إن لك لربا ، وإن لك لمعادا ، وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير ، وإن هؤلاء الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة ليسوا على دين .
فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام ، انصرفت معه ، ثم غدونا إليهم ، فقالوا مثل ذلك وأحسن ، ولزمتهم . فقالوا لي : يا سلمان ، إنك غلام ، وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع ، فصل ونم وكل واشرب . فاطلع الملك على صنيع ابنه ، فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم ، فقال : يا هؤلاء ، قد جاورتموني ، فأحسنت جواركم ، ولم تروا مني سوءا ، فعمدتم إلى ابني ، فأفسدتموه علي ، قد أجلتكم ثلاثا ، فإن قدرت بعدها عليكم ، أحرقت عليكم برطيلكم . قالوا : نعم ، وكف ابنه عن إتيانهم . فقلت له : اتق الله ; فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله ، وأن أباك على غير دين ، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك . قال : هو كما تقول ، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم . قال : فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا ، فقالوا : يا سلمان ، قد كنا نحذر ما رأيت ، فاتق الله ، واعلم أن الدين ما أوصيناك به . فلا يخدعنك أحد عن دينك . قلت ما أنا بمفارقكم . قالوا : فخذ شيئا تأكله ; فإنك لا تستطيع ما نستطيع نحن .
ففعلت ، ولقيت أخي ، فعرضت عليه بأني أمشي معهم ، فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل ، فأتينا بيعة ، فلما دخلوا أحفوا بهم وقالوا : أين كنتم ؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى ، بها عبدة النيران ، فطردنا ، فقدمنا عليكم .
فلما كان بعد ، قالوا : يا سلمان ، إن ها هنا قوما في هذه الجبال هم أهل [ ص: 528 ] دين ، وإنا نريد لقاءهم ، فكن أنت ها هنا . قلت : ما أنا بمفارقكم . فخرجوا وأنا معهم ، فأصبحوا بين جبال ، وإذا ماء كثير وخبز كثير ، وإذا صخرة ، فقعدنا عندها .
فلما طلعت الشمس ، خرجوا من بين تلك الجبال ، يخرج رجل رجل من مكانه كأن الأرواح قد انتزعت منهم ، حتى كثروا فرحبوا بهم وحفوا ، وقالوا : أين كنتم ؟ قالوا : كنا في بلاد فيها عبدة نيران . فقالوا : ما هذا الغلام ؟ وطفقوا يثنون علي ، وقالوا : صحبنا من تلك البلاد ، فوالله إنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من كهف ، فجاء فسلم ، فحفوا به ، وعظمه أصحابي ، وقال : أين كنتم ؟ فأخبروه ، فقال : ما هذا الغلام ؟ فأثنوا علي .
فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر رسله ، وذكر مولد عيسى ابن مريم ، وأنه ولد بغير ذكر ، فبعثه الله رسولا ، وأجرى على يديه إحياء الموتى ، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن الله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وعلمه التوراة ، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، فكفر به قوم ، وآمن به قوم ، إلى أن قال : فالزموا ما جاء به عيسى ، ولا تخالفوا ، فيخالف بكم . ثم قال : من أراد أن يأخذ من هذا شيئا ، فليأخذ .
فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء ، فقام إليه أصحابي الذين جئت معهم ، فسلموا عليه ، وعظموه ، وقال لهم : الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا ، واستوصوا بهذا الغلام خيرا ، وقال لي : يا غلام ، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله ، وما سواه الكفر .
قلت : ما أنا بمفارقك . قال : إنك لا تستطيع أن تكون معي ، إني ما أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد . قلت : ما أنا بمفارقك .
قال له أصحابه : يا أبا فلان ، إن هذا لغلام ويخاف عليه . قال لي : أنت أعلم . قلت : فإني لا أفارقك . فبكى أصحابي لفراقي ، فقال : يا غلام ، خذ من هذا الطعام ما يكفيك للأحد الآخر ، وخذ من الماء ما تكتفي به ، ففعلته ، فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا [ ص: 529 ] وساجدا إلى الأحد الآخر . فلما أصبحنا قال : خذ جرتك هذه وانطلق . فخرجت أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة ، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال ينتظرون خروجه ، فعدوا ، وعاد في حديثه وقال : الزموا هذا الدين ، ولا تفرقوا ، واذكروا الله ، واعلموا أن عيسى كان عبد الله أنعم عليه ، فقالوا : كيف وجدت هذا الغلام ؟ فأثنى علي . وإذا خبز كثير وماء كثير ، فأخذوا ما يكفيهم وفعلت . فتفرقوا في تلك الجبال ، ورجعنا إلى الكهف ، فلبثنا ما شاء الله يخرح كل أحد ويحفون به .
فخرج يوما فحمد الله - تعالى - ووعظهم ، ثم قال : يا هؤلاء ، إنه قد كبر سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وإنه لا عهد لي بهذا البيت مذ كذا وكذا ، ولا بد من إتيانه ، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا ; فإني رأيته لا بأس به .
فجزع القوم ، وقالوا : أنت كبير ، وأنت وحدك ، فلا نأمن أن يصيبك الشيء ولسنا عندك ، ما أحوج ما كنا إليك . قال : لا تراجعوني ، فقلت : ما أنا بمفارقك . قال : يا سلمان ، قد رأيت حالي وما كنت عليه ، وليس هذا كذلك ، أنا أمشي أصوم النهار ، وأقوم الليل ، ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره ، وأنت لا تقدر على هذا . قلت : ما أنا بمفارقك . قال : أنت أعلم .
وبكوا وودعوه ، واتبعته يذكر الله ولا يلتفت ، ولا يقف على شيء ، حتى إذا أمسينا قال : صل أنت ، ونم ، وقم ، وكل ، واشرب . ثم قام يصلي حتى إذا انتهينا إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء ، فإذا على باب المسجد مقعد ، فقال : يا عبد الله ، قد ترى حالي ، فتصدق علي بشيء فلم يلتفت إليه ، ودخل المسجد ، فجعل يتبع أمكنة يصلي فيها ، ثم قال : يا سلمان ، لم أنم مذ كذا وكذا ، فإن أنت جعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت ; فإني أحب أن أنام في هذا المسجد ، وإلا لم أنم . قلت : فإني أفعل . فنام ، فقلت في نفسي : هذا لم ينم منذ كذا وكذا لأدعنه ينام . [ ص: 530 ] وكان لما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا ، وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا ، ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد حتى قال : يا سلمان ، إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة ، وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول محمد ، علامته أنه يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب ، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه ، فإن أنت أدركته ، فصدقه واتبعه . قلت : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ، قال : نعم . فإن رضى الرحمن فيما قال .
فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر الله تعالى ، فقال : يا سلمان ، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله ، أين ما كنت جعلت على نفسك ؟ قلت : لأنك لم تنم منذ كذا وكذا ، فأحببت أن تستوفي من النوم . فحمد الله وقام .
وخرج فتبعته ، فمر بالمقعد ، فقال : يا عبد الله ، دخلت وسألتك فلم تعطني وخرجت فسألتك فلم تعطني ، فقام ينظر هل يرى أحدا فلم ير ، فدنا منه ، وقال له : ناولني يدك ، فناوله ، فقال : باسم الله ، فقام كأنه نشط من عقال ، صحيحا لا عيب فيه . فانطلق ذاهبا ، فكان لا يلوي على أحد ، ولا يقوم عليه .
فقال لي المقعد : يا غلام ، احمل علي ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي . فحملت عليه ثيابه ، وانطلق لا يلوي علي ، فخرجت في أثره أطلبه ، فكلما سألت عنه ، قالوا أمامك .
حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم ، [ ص: 531 ] فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره ، فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم ، فباعوني ، واشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها .
وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت به ، فأخذت شيئا من تمر حائطي وأتيته فوجدت عنده ناسا ، وإذا أبو بكر أقرب الناس إليه ، فوضعته بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ قلت : صدقة ، فقال : كلوا ، ولم يأكل . ثم لبثت ما شاء الله ، ثم أخذت مثل ذلك وأتيته به . فوجدت عنده ناسا ، فوضعته بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ قلت : هدية . فقال : باسم الله ، وأكل وأكل القوم ، فقلت في نفسي : هذه من آياته .
كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول تهامة ، فقال : تهمة .
قال : فدرت من خلفه ، ففطن لي فأرخى ثوبه ، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر ، فتبينته ، ثم درت حتى جلست بين يديه ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . قال : من أنت ؟ قلت : مملوك ، وحدثته حديثي ، وحديث الذي كنت معه ، وما أمرني به . قال : لمن أنت ؟ قلت : لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها . قال : يا أبا بكر ، قال : لبيك . قال : اشتره . فاشتراني أبو بكر ، فأعتقني . فلبثت ما شاء الله ، ثم أتيته ، فسلمت عليه ، وقعدت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في دين النصارى ؟ قال : لا خير فيهم ولا في دينهم .
فدخلني أمر عظيم ، وقلت في نفسي : الذي أقام المقعد لا خير في هؤلاء ولا في دينهم . فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله ، وأنزل الله على نبيه ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : علي بسلمان . فأتاني الرسول وأنا خائف ، [ ص: 532 ] فجئته فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ذلك بأن منهم قسيسين ثم قال : يا سلمان ، إن الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى ; إنما كانوا مسلمين .
فقلت : والذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك ، فقلت له : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال : نعم فاتركه ; فإنه الحق .
هذا حديث جيد الإسناد حكم بصحته . الحاكم