الحكم بن هشام
ابن الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي المرواني ، أبو العاص ، أمير الأندلس وابن أميرها ، وحفيد أميرها . ويلقب بالمرتضى ، ويعرف بالربضي ، لما فعل بأهل [ ص: 254 ] الربض ، بويع بالملك عند موت أبيه في صفر سنة ثمانين ومائة .
وكان من جبابرة الملوك ، وفساقهم ، ومتمرديهم ، وكان فارسا شجاعا فاتكا ، ذا دهاء وحزم وعتو وظلم ، تملك سبعا وعشرين سنة . وكان في أول أمره على سيرة حميدة ، تلا فيها أباه ، ثم تغير ، وتجاهر بالمعاصي .
قال أبو محمد بن حزم : كان من المجاهرين بالمعاصي ، سفاكا للدماء ، كان يأخذ أولاد الناس الملاح ، فيخصيهم ويمسكهم لنفسه . وله شعر جيد .
قال اليسع بن حزم : همت الروم بما لم ينالوا من طلب الثغور ، ( فنكثوا العهد ، فتجهز الحكم إليهم حتى جاز جبل السارة - شمالي طليطلة - ففرت الروم أمامه حتى تجمعوا بسمورة ، فلما التقى الجمعان نزل النصر ، وانهزم الكفر ، وتحصنوا بمدينة سمورة ، وهي كبيرة جدا ، فحصرها المسلمون بالمجانيق ، حتى افتتحوها عنوة ، وملكوا أكثر شوارعها ، واشتغل الجند بالغنائم ، وانضمت الروم إلى جهة من البلد ، وخرجوا على حمية فقتلوا خلقا في خروجهم ، فكانت غزوته من أعظم المغازي لولا ما طرأ فيها من تضييع الحزم ، ورامت الروم السلم ، فأبى عليهم الحكم ، ثم خرج من بلادهم خوفا من الثلوج ، فلما كان العام الآتي ، استعد أعظم استعداد ، [ ص: 255 ] وقصد سمورة ، فقتل وسبى كل ما مر به ، ثم نازلها شهرين ، ثم دخلوها بعد جهد ، وبذلوا فيها السيف إلى المساء ، ثم انحاز المسلمون ، فباتوا على أسوارها ، ثم صبحوها من الغد لا يبقون على محتلم .
قال الرازي في " مغازي الأندلس " : الذي أحصي ممن قتل في سمورة ثلاث مائة ألف نفس ، فلما بلغ الخبر ملك رومية ، كتب إلى الحكم يرغب في الأمان ، فوضع الحكم على الروم ما كان جده وضع عليهم ، وزاد عليهم أن يجلبوا من تراب مدينة رومية نفسها ما يصنع به أكوام بشرقي قرطبة صغارا لهم ، وإعلاء لمنار الإسلام ، فهما كومان من التراب الأحمر في بسيط مدرتها السوداء .
قلت : وكثرت العلماء بالأندلس في دولته ، حتى قيل : إنه كان بقرطبة أربعة آلاف متقلس متزيين بزي العلماء ، فلما أراد الله فناءهم ، عز عليهم انتهاك الحكم للحرمات ، وائتمروا ليخلعوه ، ثم جيشوا لقتاله ، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله ، فلا قوة إلا بالله ، فذكر ابن مزين في تاريخه : طالوت بن عبد الجبار المعافري ، وأنه أحد العلماء العاملين الشهداء الذين هموا بخلع الحكم ، وقالوا : إنه غير عدل ، ونكثوه في نفوس العوام ، وزعموا أنه لا يحل المكث ولا الصبر على هذه السيرة الذميمة ، وعولوا على تقديم أحد أهل الشورى بقرطبة ، وهو أبو الشماس أحمد بن [ ص: 256 ] المنذر بن الداخل الأموي ابن عم الحكم ، لما عرفوا من صلاحه وعقله ودينه ، فقصدوه وعرفوه بالأمر ، فأبدى الميل إليهم ، والبشرى بهم ، وقال لهم : أنتم أضيافي الليلة ، فإن الليل أستر ، وناموا ، وقام هو إلى ابن عمه بجهل ، فأخبره بشأنهم ، فاغتاظ لذلك ، وقال : جئت لسفك دمي أو دمائهم ، وهم أعلام ، فمن أين نتوصل إلى ما ذكرت ؟ فقال : أرسل معي من تثق به ليتحقق ، فوجه من أحب ، فأدخلهم أحمد في بيته تحت ستر ، ودخل الليل ، وجاء القوم ، فقال : خبروني من معكم ؟ فقالوا : فلان الفقيه ، وفلان الوزير ، وعدوا كبارا ، والكاتب يكتب حتى امتلأ الرق ، فمد أحدهم يده وراء الستر ، فرأى القوم ، فقام وقاموا ، وقالوا : فعلتها يا عدو الله ، فمن فر لحينه ، نجا ، ومن لا قبض عليه .
فكان ممن فر عيسى بن دينار الفقيه ويحيى بن يحيى الفقيه صاحب مالك ، وقرعوس بن العباس الثقفي .
[ ص: 257 ] وقبض على ناس كأبي كعب ، وأخيه ، ومالك بن يزيد القاضي ، وموسى بن سالم الخولاني ، ويحيى بن مضر الفقيه ، وأمثالهم من أهل العلم والدين ، في سبعة وسبعين رجلا ، فضربت أعناقهم ، وصلبوا .
وأضاف إليهم عميه كليبا ، وأمية ، فصلبا ، وأحرق القلوب عليهم ، وسار بأمرهم الرفاق ، وعلم الحكم أنه محقود من الناس كلهم ، فأخذ في جمع الجنود والحشم وتهيأ ، وأخذت العامة في الهيج ، واستأسد الناس ، وتنمروا ، وتأهبوا ، فاتفق أن مملوكا خرج من القصر بسيف دفعه إلى الصيقل ، فماطله ، فسبه ، فجاوبه الصيقل ، فتضاربا ، ونال منه المملوك حتى كاد أن يتلفه ، فلما تركه ، أخذ الصيقل السيف فقتل به المملوك ، فتألب إلى المقتول جماعة ، وإلى القاتل جماعة أخرى ، واستفحل الشر ، وذلك في رمضان سنة اثنتين ومائتين ، وتداعى أهل قرطبة من أرباضهم ، وتألبوا بالسلاح ، وقصدوا القصر ، فركب الجيش والإمام الحكم ، فهزموا العامة ، وجاءهم عسكر من خلفهم ، فوضعوا فيهم السيف ، وكانت وقعة هائلة شنيعة ، مضى فيها عدد كثير زهاء عن أربعين ألفا من أهل الربض ، وعاينوا البلاء من قدامهم ومن خلفهم فتداعوا بالطاعة ، وأذعنوا ولاذوا بالعفو ، فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة ، ففعلوا وهدمت ديارهم ومساجدهم ، ونزل منهم ألوف بطليطلة ، وخلق في الثغور ، وجاز آخرون البحر ، ونزلوا بلاد البربر ، وثبت جمع بفاس ، وابتنوا على ساحلها مدينة غلب على اسمها مدينة الأندلس ، وسار جمع منهم زهاء خمسة عشر ألفا ، [ ص: 258 ] وفيهم عمر بن شعيب الغليظ ، فاحتلوا بالإسكندرية ، فاتفق بعد ذلك أن رجلا منهم اشترى لحما من جزار ، فتضاجر معه ، ورماه الجزار بكرش في وجهه ، فرجع بتلك الحالة إلى قومه ، فجاءوا فقتلوا اللحام ، فقام عليهم أهل الإسكندرية ، فاقتتلوا ، وأخرج الأندلسيون أهلها هاربين ، وتملكوا الإسكندرية ، فاتصل الخبر بالمأمون ، فأرسل إليهم ، وابتاع المدينة منهم ، على أن يخرجوا منها وينزلوا جزيرة إقريطش فخرجوا ونزلوها وافتتحوها ، فلم يزالوا فيها إلى أن غلب عليها أرمانوس بن قسطنطين سنة خمس وثلاث مائة .
وأما الحكم ، فإنه اطمأن ، وكتب إلى القائد محمد بن رستم كتابا فيه : وأنه تداعى فسقة من أهل قرطبة إلى الثورة ، وشهروا السلاح ، فأنهضنا لهم الرجال ، فقتلنا فيهم قتلا ذريعا ، وأعان الله عليهم ، فأمسكنا عن أموالهم وحرمهم . ثم كتب الحكم كتاب أمان عام ، وكان طالوت اختفى سنة عند يهودي ، ثم خرج وقصد الوزير أبا البسام ليختفي عنده فأسلمه إلى الحكم ، فقال : ما رأي الأمير في كبش سمين ، وقف على مذوده عاما ، فقال الحكم : لحم ثقيل ، ما الخبر ؟ قال : طالوت عندي ، فأمره بإحضاره ، [ ص: 259 ] فأحضر ، فقال : يا طالوت ، أخبرني لو أن أباك أو ابنك ملك هذه الدار ، أكنت فيها في الإكرام والبر على ما كنت أفعل معك ؟ ألم أفعل كذا ؟ ألم أمش في جنازة امرأتك ، ورجعت معك إلى دارك ؟ أفما رضيت إلا بسفك دمي ؟ فقال الفقيه في نفسه : لا أجد أنفع من الصدق . فقال : إني كنت أبغضك لله فلم يمنعك ما صنعت معي لغير الله ، وإني لمعترف بذلك ، أصلحك الله . فوجم الخليفة وقال : اعلم أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك ، فانصرف في حفظ الله ، ولست بتارك برك ، وليت الذي كان لم يكن ، ولكن أين ظفر بك أبو البسام لا كان ؟ فقال : أنا أظفرته بنفسي ، وقصدته . قال : فأين كنت في عامك ؟ قال : في دار يهودي ، حفظني لله ، فأطرق الخليفة مليا ، ورفع رأسه إلى أبي البسام وقال : حفظه يهودي ، وستر عليه لمكانه من العلم والدين ، وغدرت به إذ قصدك وخفرت ذمته ، لا أرانا الله في القيامة وجهه إن رأينا لك وجها . وطرده وكتب لليهودي كتابا بالجزية فيما ملك ، وزاد في إحسانه ، فلما رأى اليهودي ذلك ، أسلم مكانه .
قال ابن مزين : وكان أهل طليطلة لهم نفوس أبية ، وكانوا لا يصبرون على ظلم بني أمية ، فإن ولاتهم كان فيهم ظلم وتعد ، فكانوا يثبون على الوالي ويخرجونه ، فولى عليهم الحكم عمروسا رجلا منهم . وكان عمروس داهية ، فداخل الحكم ، وعمل على رءوس أهل طليطلة حتى قتل جماعة منهم . [ ص: 260 ]
قال ابن مزين : فأشار أولا على الأعيان ببناء قلعة تحميهم ، ففعلوا ، فبعث إلى الخليفة كتابا بمعاملة منه ، فيه شتمه وسبه ، فقام له وقعد ، وسب وأفحش ، وبعث للخليفة ولده للغزو ، فاحتال عمروس على الأكابر حتى خرجوا ، وتلقوه ورغبوه في الدخول إلى قلعتهم ، ومد سماطا واستدعاهم ، فكان الداخل يدخل على باب ، ويخرج من باب آخر ، فتضرب عنقه حتى كمل منهم كذلك نحو الخمسة آلاف ، حتى غلا بخار الدماء وظهرت الرائحة ، ثم بعث الحكم أمانا ليحيى بن يحيى الليثي .
مات الحكم سنة ست ومائتين في آخرها وله ثلاث وخمسون سنة ، وولي الأندلس بعده ابنه أبو المطرف عبد الرحمن ، فلنذكره .