قلت : كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية ، لا يلتفت إليه ، بل يطوى ولا يروى ، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين ، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف ، وبعضه كذب ، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا ، فينبغي طيه وإخفاؤه ، بل إعدامه لتصفو القلوب ، وتتوفر على حب الصحابة ، والترضي عنهم ، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء .
وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى ، بشرط أن يستغفر لهم ، كما علمنا الله تعالى [ ص: 93 ] حيث يقول : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا .
فالقوم لهم سوابق ، وأعمال مكفرة لما وقع منهم ، وجهاد محاء ، وعبادة ممحصة ، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم ، ولا ندعي فيهم العصمة ، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض ، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأئمة ، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة ، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد ، وأمهات المؤمنين ، وبنات نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، وأهل بدر مع كونهم على مراتب ، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وسائر وابن عمر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح ثم عموم المهاجرين والأنصار كخالد بن الوليد والعباس ، وهذه الحلبة ، ثم سائر من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهد معه ، أو حج معه ، أو سمع منه ، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرات والمدنيات وعبد الله بن عمرو وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات .
فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك ، فلا نعرج عليه ، ولا كرامة ، فأكثره باطل وكذب وافتراء ، فدأب الروافض رواية الأباطيل ، أو رد ما في الصحاح والمسانيد ، ومتى إفاقة من به سكران ؟ ! ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض ، وتحاربوا ، وجرت أمور لا يمكن شرحها ، فلا فائدة في بثها .
ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة ، والعاقل خصم نفسه ، ومن حسن إسلام [ ص: 94 ] المرء تركه ما لا يعنيه ، ولحوم العلماء مسمومة ، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم ، وكثرة وهمه ، أو نقص حفظه ، فليس من هذا النمط ، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن ، والحسن من الضعيف . وإمامنا - فبحمد الله - ثبت في الحديث ، حافظ لما وعى ، عديم الغلط ، موصوف بالإتقان ، متين الديانة ، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له ، فقد ظلم نفسه ، ومقتته العلماء ، ولاح لكل حافظ تحامله ، وجر الناس برجله ، ومن أثنى عليه ، واعترف بإمامته وإتقانه ، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا ، فقد أصابوا ، وأجملوا ، وهدوا ، ووفقوا .
وأما أئمتنا اليوم وحكامنا ، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى ، فقد يقال : أحسنوا ووفقوا ، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر .
وبكل حال فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة . وفي الحديث الثابت : . لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولدا ، وإنه ليرزقهم ويعافيهم
وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام -رحمه الله - فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام ، ولله الحمد . [ ص: 95 ]
ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر ، وخالف أقرانه من المالكية ، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة ، وخالف شيخه في مسائل ، تألموا منه ، ونالوا منه ، وجرت بينهم وحشة ، غفر الله للكل ، وقد اعترف الإمام سحنون ، وقال : لم يكن في بدعة . فصدق والله ، فرحم الله الشافعي ، وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه ، وشرفه ، ونبله ، وسعة علمه ، وفرط ذكائه ، ونصره للحق ، وكثرة مناقبه -رحمه الله تعالى . الشافعي
قال الحافظ أبو بكر الخطيب في مسألة الاحتجاج بالإمام الشافعي ، فيما قرأت على أبي الفضل بن عساكر ، عن عبد المعز بن محمد ، أخبرنا يوسف بن أيوب الزاهد ، أخبرنا الخطيب ، قال : سألني بعض إخواننا بيان علة ترك الرواية عن البخاري في " الجامع " ؟ الشافعي
وذكر أن بعض من يذهب إلى رأي أبي حنيفة ضعف أحاديث ، واعترض بإعراض الشافعي عن روايته ، ولولا ما أخذ الله على العلماء فيما يعلمونه ليبيننه للناس ; لكان أولى الأشياء الإعراض عن اعتراض الجهال ، وتركهم يعمهون ، وذكر لي من يشار إليه خلو كتاب البخاري مسلم وغيره من حديث ، فأجبته بما فتح الله لي . الشافعي
ومثل من حسد ، وإلى ستر معالمه قصد ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر من كل حق مستوره ، وكيف لا يغبط من حاز الكمال ، بما جمع الله له من الخلال اللواتي لا ينكرها إلا ظاهر الجهل ، أو ذاهب العقل . . ثم أخذ الشافعي الخطيب يعدد علوم الإمام ومناقبه ، وتعظيم الأئمة له ، وقال :
أبى الله إلا رفعه وعلوه وليس لمن يعليه ذو العرش واضع
إلى أن قال : هذب ما في " جامعه " ، غير أنه عدل عن كثير من الأصول إيثارا للإيجاز ، قال والبخاري إبراهيم بن معقل : سمعت يقول : [ ص: 96 ] ما أدخلت في كتابي " الجامع " إلا ما صح ، وتركت من الصحاح لحال الطول . فترك البخاري الاحتجاج البخاري ، إنما هو لا لمعنى يوجب ضعفه ، لكن غني عنه بما هو أعلى منه ، إذ أقدم شيوخ بالشافعي الشافعي مالك ، ، والدراوردي وداود العطار ، وابن عيينة . لم يدرك والبخاري ، بل لقي من هو أسن منه ، الشافعي كعبيد الله بن موسى ، وأبي عاصم ممن رووا عن التابعين ، وحدثه عن شيوخ عدة ، فلم ير أن يروي عن رجل ، عن الشافعي ، عن الشافعي مالك .فإن قيل : فقد روى عن المسندي ، عن معاوية بن عمرو ، عن الفزاري ، عن مالك ، فلا شك أن سمع هذا الخبر من أصحاب البخاري مالك ، وهو في " الموطأ " فهذا ينقض عليك ؟ !
قلنا : إنه لم يرو حديثا نازلا وهو عنده عال ، إلا لمعنى ما يجده في العالي ، فأما أن يورد النازل ، وهو عنده عال ، لا لمعنى يختص به ، ولا على وجه المتابعة لبعض ما اختلف فيه ; فهذا غير موجود في الكتاب . وحديث الفزاري فيه بيان الخبر ، وهو معدوم في غيره ، وجوده الفزاري بتصريح السماع .
ثم سرد الخطيب ذلك من طرق عدة ، قال : يتبع الألفاظ بالخبر في بعض الأحاديث ويراعيها ، وإنا اعتبرنا روايات والبخاري التي ضمنها كتبه ، فلم نجد فيها حديثا واحدا على شرط الشافعي أغرب به ، ولا تفرد بمعنى فيه يشبه ما بيناه ، ومثل ذلك القول في ترك البخاري مسلم إياه ، لإدراكه ما أدرك من ذلك ، وأما البخاري أبو داود فأخرج في " سننه " غير حديث ، وأخرج له للشافعي الترمذي ، وابن خزيمة ، . . [ ص: 97 ] وابن أبي حاتم
ثم سرد الخطيب فصلا في ثناء مشايخه وأقرانه عليه ، ثم سرد أشياء في غمز بعض الأئمة ، فأساء ما شاء -أعني غامزه- وبلغنا عن الإمام ألفاظ قد لا تثبت ، ولكنها حكم ، فمنها : ما أفلح من طلب العلم إلا بالقلة . الشافعي
وعنه قال : ما كذبت قط ، ولا حلفت بالله ، ولا تركت غسل الجمعة ، وما شبعت منذ ست عشرة سنة ، إلا شبعة طرحتها من ساعتي .
وعنه قال : من لم تعزه التقوى ، فلا عز له .
وعنه : ما فزعت من الفقر قط . طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب بها الله أهل التوحيد .
وقيل له : ما لك تكثر من إمساك العصا ، ولست بضعيف ؟ قال : لأذكر أني مسافر .
وقال : من لزم الشهوات ، لزمته عبودية أبناء الدنيا .
وقال : الخير في خمسة : غنى النفس ، وكف الأذى ، وكسب الحلال ، والتقوى ، والثقة بالله . [ ص: 98 ]
وعنه : أنفع الذخائر التقوى ، وأضرها العدوان .
وعنه : اجتناب المعاصي ، وترك ما لا يعنيك ، ينور القلب . عليك بالخلوة ، وقلة الأكل ، إياك ومخالطة السفهاء ومن لا ينصفك ، إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ، ولم تملكها .
وعنه : لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس ، صرف إلى الزهاد .
وعنه : سياسة الناس أشد من سياسة الدواب .
وعنه : العاقل من عقله عقله عن كل مذموم .
وعنه : للمروءة أركان أربعة : حسن الخلق ، والسخاء ، والتواضع ، والنسك .
وعنه : لا يكمل الرجل إلا بأربع : بالديانة ، والأمانة ، والصيانة ، والرزانة .
وعنه : ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته . [ ص: 99 ]
وعنه : علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا .
وعنه : من نم لك نم عليك .
وعنه قال : التواضع من أخلاق الكرام ، والتكبر من شيم اللئام ، التواضع يورث المحبة ، والقناعة تورث الراحة .
وقال : أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره ، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله .
وقال : ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه .
لا نلام والله على حب هذا الإمام ، لأنه من رجال الكمال في زمانه -رحمه الله - وإن كنا نحب غيره أكثر .