أمير المؤمنين ، المهتدي بالله ، أبو إسحاق ، وأبو عبد الله ، محمد بن الواثق هارون بن المعتصم محمد بنب الرشيد العباسي .
مولده في دولة جده .
وبويع ابن بضع و ثلاثين سنة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين . وما قبل مبايعة أحد حتى أحضر . فلما رآه قام له ، [ ص: 536 ] المعتز بالله
وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وجلس بين يديه ، فجيء بشهود ، فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن أعباء الإمامة ، وأقر بذلك ، ومد يده ، فبايع ابن عمه ، فارتفع حينئذ المهتدي بالله المهتدي إلى صدر المجلس ، وقال : لا يجتمع سيفان في غمد ، وأنشد قول ابن أبي ذؤيب :
تريدين كيما تجمعيني وخالدا وهل يجمع السيفان ، ويحك في غمد؟
!وكان المهتدي أسمر رقيقا ، مليح الوجه ، ورعا عادلا صالحا متعبدا بطلا شجاعا ، قويا في أمر الله ، خليقا للإمارة ، لكنه لم يجد معينا ولا ناصرا ، والوقت قابل للإدبار .
نقل الخطيب عن أبي موسى العباسي . أنه مازال صائما منذ استخلف إلى أن قتل .
وقال أبو العباس هاشم بن القاسم : كنت عند المهتدي عشية في رمضان ، فقمت لأنصرف ، فقال : اجلس . فجلست ، فصلى بنا ، ودعا بالطعام ، فأحضر طبق خلاف عليه أرغفة وآنية فيها ملح وزيت وخل ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ . فقال : ألم تكن صائما ؟ قلت : بلى . قال : فكل واستوف ، فليس هنا غير ما ترى ؟ ! فعجبت ، ثم قلت : ولم يا أمير المؤمنين ، وقد أنعم الله عليك ؟ قال : إني فكرت أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز ، فغرت على بني هاشم ، وأخذت نفسي بما رأيت . [ ص: 537 ]
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو النضر المروزي ، قال لي جعفر بن عبد الواحد : ذاكرت المهتدي بشيء ، فقلت له : كان يقول به ، ولكنه كان يخالف ، كأني أشرت إلى آبائه ، فقال : رحم الله أحمد بن حنبل ، لو جاز لي لتبرأت من أبي ، تكلم بالحق وقل به ، فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني . أحمد بن حنبل
قال نفطويه أخبرنا بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي صفط فيه جبة صوف ، وكساء كان يلبسه في الليل ، ويصلي فيه . وكان قد اطرح الملاهي ، وحرم الغناء ، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم ، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ، يجلس بنفسه ، ويجلس بين يديه الكتاب ، يعملون الحساب ، ويلزم الجلوس يومي الخميس والاثنين ، وقد ضرب جماعة من الكبار ، ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد لرفض فيه ، وقدم موسى بن بغا من الري فكرهه ، وبعث بعبد الصمد بن موسى الهاشمي يأمره بالرجوع ، فلم يفعل ، وعزل من القضاء ابن أبي الشوارب ، وحبسه ، وولى مكانه عبد الرحمن بن نائل البصري .
وفي أوائل خلافته عبأ موسى بن بغا جيشه ، وشهر السلاح بسامراء لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز ، ولأخذه أموال أمه قبيحة ، وأموال الدواوين . وصاحت الغوغاء على صالح : يا فرعون ، جاءك موسى . فطلب موسى الإذن على ، فلم يأذن له ، فهجم بمن معه المهتدي بالله والمهتدي جالس في دار العدل ، فأقاموه وحملوه على أكدش ، وانتهبوا [ ص: 538 ] القصر . ولما دخلوا دار ناجور أدخلوا المهتدي إليها ، وهو يقول : يا موسى ، اتق الله ، ويحك ما تريد ؟ ! ! قال : والله ما نريد إلا خيرا ، وحلف له لا نالك سوء . ثم حلفوه أن لا يمالئ صالح بن وصيف ، فحلف لهم ، فبايعوه حينئذ ، ثم طلبوا صالحا ليحاققوه ، فاختفى .
ورد إلى داره ، ثم قتل المهتدي بالله صالح شر قتلة فيما بعد .
وفي المحرم من سنة ست ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت بكتاب فيه نصيحة لأمير المؤمنين ، وإن طلبتموني فأنا في مكان كذا وكذا . قال : فطلبت ، فلم تقع ، فجمع الأمراء ، وقال : هذا كتاب تعرفونه ؟ فقال رجل : نعم هو خط صالح ، وفيه يذكر أنه مستخف بسامراء ، وأن الأموال علمها عند الحسن بن مخلد . وكان كتابه دالا على قوة نفسه ، فأشار المهتدي بالصلح ، فاتهمه ابن بغا وذووه ، ونافسوه ، ثم من الغد تكلموا في خلعه ، فقال باكيال : ويحكم ! قتلتم ابن المتوكل ، وتريدون قتل هذا الصوام الدين ! لئن فعلتم لأصيرن إلى خراسان ، ولأشنعن عليكم . ثم خرج المهتدي وعليه ثياب بيض وتقلد سيفا ، وأمر بإدخالهم إليه . فقال : قد بلغني شأنكم ، ولست كالمستعين والمعتز ، والله ما خرجت إلا وأنا متحنط ، وقد أوصيت ، وهذا سيفي فلأضربن به ما استمسك بيدي . أما دين أما حياء ، أما رعة ؟ كم يكون الخلاف على الخلفاء ، والجرأة على الله ؟ ثم قال : ما أعلم أين هو صالح . قالوا : فاحلف لنا . قال : إذا كان يوم الجمعة ، وصليت حلفت ، فرضوا [ ص: 539 ] وانفصلوا على هذا .
ثم ورد من فارس مال نحو عشرة آلاف ألف درهم ، فانتشر في العامة أن الأتراك على خلع المهتدي ، فثار العوام والقواد ، وكتبوا رقاعا ألقوها في المساجد : معاشر المسلمين ، ادعوا لخليفتكم العدل الرضي المضاهي عمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه .
وراسل أهل الكرخ والدور في الوثوب على المهتدي بالله موسى بن بغا ، فجزاهم خيرا ، ووعدهم بالجميل ، وعاثت الزنج بالبصرة ، ويعقوب الصفار بخراسان . وقتل المهتدي الأمير باكيال ، فثار أصحابه ، وأحاطوا بدار الجوسق ، فألقي الرأس إليهم ، وركب أعوان الخليفة ، فتمت ملحمة كبرى ، قتل فيها من الأتراك ألوف وقيل بل ألف في رجب سنة ست ، ثم أصبحوا على الحرب ، فركب المهتدي ، وصالح بن علي في عنقه المصحف يصيح : أيها الناس ، انصروا إمامكم ، فحمل عليه أخو باكيال في خمسمائة ، وخامر الأتراك الذين مع الخليفة إليه ، وحمي الوطيس ، وتفلل جمع المهتدي واستحر بهم القتل . فولى والسيف في يده يقول : أيها الناس ، قاتلوا عن خليفتكم ، ثم دخل دار صالح بن محمد بن يزداد ، ورمى السلاح ، ولبس البياض ليهرب من السطح ، وجاء حاجب باكيال ، فأعلم به فهرب ، فرماه واحد بسهم ، ونفحه بالسيف ، ثم حمل إلى الحاجب ، فأركبوه بغلا وخلفه سائس ، وضربوه وهم يقولون : أين الذهب ؟ فأقر لهم بستمائة ألف دينار مودعة ببغداد ، فأخذوا خطه بها . وعصر تركي على أنثييه فمات ، وقيل : أرادوا منه أن يخلع نفسه ، فأبى ، فقتلوه -رحمه الله- وبايعوا المعتمد على الله . [ ص: 540 ]
بنو المهتدي بالله : أبو جعفر عبد الله ، وأبو الحسن عبد الصمد ، وأبو بكر عبد الرحمن ، وأبو أحمد عبد الله ، وأبو الفضل هبة الله . وفي ذريته علماء وخطباء .