محمد بن نصر
ابن الحجاج المروزي الإمام ، شيخ الإسلام أبو عبد الله الحافظ .
مولده ببغداد في سنة اثنتين ومائتين ومنشؤه بنيسابور ، ومسكنه سمرقند . كان أبوه مروزيا ، ولم يرفع لنا في نسبه .
ذكره فقال : إمام عصره بلا مدافعة في الحديث . الحاكم
سمع بخراسان من يحيى بن يحيى التميمي ، وأبي خالد يزيد بن صالح ، وعمرو بن زرارة ، وصدقة بن الفضل المروزي ، ، وإسحاق بن راهويه . وعلي بن حجر وبالري : محمد بن مهران الجمال ، ومحمد بن مقاتل ، [ ص: 34 ] ومحمد بن حميد ، وطائفة . وببغداد : محمد بن بكار بن الريان ، ، والطبقة . وعبيد الله بن عمر القواريري وبالبصرة : ، شيبان بن فروخ ، وهدبة بن خالد وعبد الواحد بن غياث ، وعدة . وبالكوفة : ، محمد بن عبد الله بن نمير وهنادا ، ، وطائفة . وابن أبي شيبة وبالمدينة : أبا مصعب ، وإبراهيم بن المنذر الحزامي ، وطائفة . وبالشام : هشام بن عمار ، ودحيما .
قلت : وبمصر من يونس الصدفي ، والربيع المرادي ، وأبي إسماعيل المزني ، وأخذ عنه كتب ضبطا وتفقها ، وكتب الكثير ، وبرع في علوم الإسلام ، وكان إماما مجتهدا علامة ، من أعلم أهل زمانه باختلاف الصحابة والتابعين ، قل أن ترى العيون مثله . الشافعي
قال أبو بكر الخطيب حدث عن . ثم سمى جماعة ، وقال : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام . عبدان بن عثمان
قلت : يقال : إنه كان أعلم الأئمة باختلاف العلماء على الإطلاق .
حدث عنه : أبو العباس السراج ، ، ومحمد بن المنذر شكر ، وأبو حامد بن الشرقي وأبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم ، وأبو النضر محمد بن محمد الفقيه ، وولده إسماعيل بن محمد بن نصر ، ومحمد بن إسحاق السمرقندي ، وخلق سواهم .
قال أبو بكر الصيرفي من الشافعية : لو لم يصنف ابن نصر إلا كتاب : " القسامة " لكان من أفقه الناس .
وقال أبو بكر بن إسحاق الصبغي ، وقيل له : ألا تنظر إلى تمكن أبي [ ص: 35 ] علي الثقفي في عقله ؟ فقال : ذاك عقل الصحابة والتابعين من أهل المدينة . قيل : وكيف ذاك ؟ قال : إن كان من أعقل أهل زمانه ، وكان يقال : صار إليه عقل الذين جالسهم من التابعين ، فجالسه مالكا يحيى بن يحيى النيسابوري ، فأخذ من عقله وسمته ، ثم جالس يحيى بن يحيى محمد بن نصر سنين ، حتى أخذ من سمته وعقله ، فلم ير بعد يحيى من فقهاء خراسان أعقل من ابن نصر ، ثم إن أبا علي الثقفي جالسه أربع سنين ، فلم يكن بعده أعقل من أبي علي .
قال عبد الله بن محمد الإسفراييني : سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول : كان محمد بن نصر بمصر إماما . فكيف بخراسان ؟
وقال القاضي محمد بن محمد : كان الصدر الأول من مشايخنا يقولون : رجال خراسان أربعة : ابن المبارك ، ، وابن راهويه ويحيى بن يحيى ، ومحمد بن نصر .
ومن كلام محمد بن نصر قال : لما كانت المعاصي بعضها كفرا ، وبعضها ليس بكفر ، فرق -تعالى- بينها ، فجعلها ثلاثة أنواع : فنوع منها كفر ، ونوع منها فسوق ، ونوع منها عصيان ، ليس بكفر ولا فسوق . وأخبر أنه كرهها كلها إلى المؤمنين ، ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان ، وليس فيها شيء خارج عنه ، لم يفرق بينها ، فما قال : حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات ، بل أجمل ذلك فقال : حبب إليكم الإيمان فدخل فيه جميع الطاعات ; لأنه قد حبب إليهم الصلاة والزكاة ، وسائر الطاعات حب تدين ، ويكرهون المعاصي كراهية تدين ، ومنه قوله عليه السلام : . من سرته حسنته ، وساءته سيئته ، فهو مؤمن
[ ص: 36 ] وقال أبو عبد الله بن الأخرم : انصرف محمد بن نصر من الرحلة الثانية سنة ستين ومائتين ، فاستوطن نيسابور ، فلم تزل تجارته بنيسابور ، أقام مع شريك له مضارب ، وهو يشتغل بالعلم والعبادة ، ثم خرج سنة خمس وسبعين إلى سمرقند ، فأقام بها وشريكه بنيسابور ، وكان وقت مقامه بنيسابور هو المقدم والمفتي بعد وفاة محمد بن يحيى ; فإن حيكان -يعني يحيى ولد محمد بن يحيى - ومن بعده أقروا له بالفضل والتقدم .
قال ابن الأخرم الحافظ : أخبرنا إسماعيل بن قتيبة : سمعت محمد بن يحيى غير مرة إذا سئل عن مسألة يقول : سلوا أبا عبد الله المروزي .
وقال أبو بكر الصبغي : أدركت إمامين لم أرزق السماع منهما : ، أبو حاتم الرازي ; ومحمد بن نصر المروزي فأما ابن نصر فما رأيت أحسن صلاة منه ، لقد بلغني أن زنبورا قعد على جبهته ، فسال الدم على وجهه ، ولم يتحرك .
وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم : ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن نصر ; كان الذباب يقع على أذنه ، فيسيل الدم ، ولا يذبه عن نفسه ، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته للصلاة ، كان يضع ذقنه [ ص: 37 ] على صدره ، فينتصب كأنه خشبة منصوبة . قال : وكان من أحسن الناس خلقا ، كأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، وعلى خديه كالورد ، ولحيته بيضاء .
قال أحمد بن إسحاق الصبغي : سمعت محمد بن عبد الوهاب الثقفي يقول : كان إسماعيل بن أحمد -والي خراسان - يصل محمد بن نصر في العام بأربعة آلاف درهم ، ويصله أخوه إسحاق بمثلها ، ويصله أهل سمرقند بمثلها ، فكان ينفقها من السنة إلى السنة ، من غير أن يكون له عيال ، فقيل له : لو ادخرت لنائبة ؟ فقال : سبحان الله ! أنا بقيت بمصر كذا كذا سنة ، قوتي ، وثيابي ، وكاغدي وحبري وجميع ما أنفقه على نفسي في السنة عشرون درهما ، فترى إن ذهب ذا لا يبقى ذاك ! .
قال الحافظ السليماني : محمد بن نصر إمام الأئمة الموفق من السماء ، سكن سمرقند ، سمع يحيى بن يحيى ، وعبدان ، وعبد الله المسندي ، وإسحاق ، وله كتاب " تعظيم قدر الصلاة " ، وكتاب " رفع اليدين " ، وغيرهما من الكتب المعجزة . كذا قال السليماني ، ولا معجز إلا القرآن . ثم قال : مات هو وصالح جزرة في سنة أربع وتسعين أنبأني أبو الغنائم القيسي وجماعة سمعوا أبا اليمن الكندي : أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا الجوهري ، أخبرنا ابن حيويه ، حدثنا عثمان بن جعفر اللبان ، حدثني محمد بن نصر قال : خرجت من مصر ومعي جارية ، فركبت البحر أريد مكة ، فغرقت ، فذهب مني ألفا [ ص: 38 ] جزء ، وصرت إلى جزيرة أنا وجاريتي ، فما رأينا فيها أحدا ، وأخذني العطش فلم أقدر على الماء ، فوضعت رأسي على فخذ جاريتي مستسلما للموت ، فإذا رجل قد جاءني ومعه كوز ، فقال لي : هاه . فشربت وسقيتها ، ثم مضى ، فما أدري من أين جاء ؟ ولا من أين راح ؟ .
وفي " الطبقات " لأبي إسحاق : ولد محمد بن نصر ببغداد ، ونشأ بنيسابور ، واستوطن سمرقند .
روي عنه أنه قال : لم يكن لي حسن رأي في ، فبينا أنا قاعد في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أغفيت ، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام ، فقلت : يا رسول الله ، أكتب رأي الشافعي ؟ فطأطأ رأسه شبه الغضبان ، وقال : تقول رأي ؟ ليس هو بالرأي ، هو رد على من خالف سنتي . فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى الشافعي مصر ، فكتبت كتب . الشافعي
قال أبو إسحاق : وصنف ابن نصر كتبا ، ضمنها الآثار والفقه ، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام ، وصنف كتابا فيما خالف أبو حنيفة عليا . وابن مسعود
قال أبو بكر الصيرفي : لو لم يصنف إلا كتاب : " القسامة " لكان من أفقه الناس ، كيف وقد صنف سواه ؟ !
قال الوزير أبو الفضل محمد بن عبيد الله البلعمي سمعت الأمير إسماعيل بن أحمد يقول : كنت بسمرقند ، فجلست يوما للمظالم ، وجلس [ ص: 39 ] أخي إسحاق إلى جنبي ، إذ دخل أبو عبد الله محمد بن نصر ، فقمت له إجلالا للعلم ، فلما خرج عاتبني أخي وقال : أنت والي خراسان تقوم لرجل من الرعية ؟ هذا ذهاب السياسة . قال : فبت تلك الليلة وأنا متقسم القلب ، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام ، كأني واقف مع أخي إسحاق ، إذ أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فأخذ بعضدي ، فقال لي : ثبت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر . ثم التفت إلى إسحاق ، فقال : ذهب ملك إسحاق ، وملك بنيه باستخفافه بمحمد بن نصر .
قلت : كان محمد بن نصر زوج أخت ، واسمها : يحيى بن أكثم القاضي خنة ، بمعجمة ثم نون مات بعد أيام قلائل من موت صالح بن محمد جزرة ، وذلك في المحرم ، سنة أربع وتسعين ومائتين .
قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة في مسألة الإيمان : صرح محمد بن نصر في كتاب " الإيمان " بأن الإيمان مخلوق ، وأن الإقرار ، والشهادة ، وقراءة القرآن بلفظه مخلوق ، ثم قال : وهجره على ذلك علماء وقته ، وخالفه أئمة خراسان والعراق .
قلت : الخوض في ذلك لا يجوز ، وكذلك لا يجوز أن يقال : الإيمان ، والإقرار ، والقراءة ، والتلفظ بالقرآن غير مخلوق ، فإن الله خلق العباد وأعمالهم ، والإيمان : قول وعمل ، والقراءة والتلفظ : من كسب القارئ ، والمقروء الملفوظ : هو كلام الله ووحيه وتنزيله ، وهو غير مخلوق ، وكذلك كلمة الإيمان ، وهي قول ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) ، داخلة في القرآن ، وما كان من القرآن فليس بمخلوق ، والتكلم بها [ ص: 40 ] من فعلنا ، وأفعالنا مخلوقة ، ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه ؛ لما سلم معنا لا ابن نصر ، ولا ابن مندة ، ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .
قال أبو محمد بن حزم في بعض تواليفه : أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن ، وأضبطهم لها ، وأذكرهم لمعانيها ، وأدراهم بصحتها ، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه .
قال : وما نعلم هذه الصفة -بعد الصحابة- أتم منها في محمد بن نصر المروزي ، فلو قال قائل : ليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر ، لما أبعد عن الصدق .
قلت : هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر ، ويمكن ادعاء ذلك لمثل ونظرائه ، والله أعلم . أحمد بن حنبل