وفي سنة إحدى وثلاثمائة أدخل الحلاج بغداد مشهورا على جمل ، قبض عليه بالسوس ، وحمل إلى الرائشي ، فبعث به إلى بغداد ، فصلب حيا ، ونودي عليه : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه .
وقال الفقيه أبو علي بن البناء : كان الحلاج قد ادعى أنه إله ، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت ، فأحضره الوزير علي بن عيسى فلم يجده -إذ سأله- يحسن القرآن والفقه ولا الحديث ، فقال : تعلمك الفرض والطهور أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها ، كم تكتب -ويلك- إلى الناس : تبارك ذو النور الشعشعاني ! ما أحوجك إلى أدب ! وأمر به فصلب في الجانب الشرقي ، ثم في الغربي . ووجد في كتبه : إني مغرق قوم نوح ، ومهلك عاد وثمود .
وكان يقول للواحد من أصحابه : أنت نوح . ولآخر : أنت موسى . ولآخر : أنت محمد .
وقال : من رست قدمه في مكان المناجاة ، وكوشف بالمباشرة ، ولوطف بالمجاورة ، وتلذذ بالقرب ، وتزين بالأنس ، وترشح بمرأى الملكوت ، وتوشح بمحاسن الجبروت ، وترقى بعد أن توقى ، وتحقق بعد أن تمزق ، وتمزق بعد أن تزندق ، وتصرف بعد أن تعرف ، وخاطب وما راقب ، وتدلل بعد أن تذلل ، ودخل وما استأذن ، وقرب لما خرب ، وكلم لما كرم ما قتلوه وما صلبوه .
[ ص: 328 ] ابن باكويه : سمعت الحسين بن محمد المذاري يقول : سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول : دخل الحسين بن منصور مكة ، فجلس في صحن المسجد لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو الطواف ، لا يبالي بالشمس ولا بالمطر ، فكان يحمل إليه كل عشية كوز وقرص ، فيعض من جوانبه أربع عضات ويشرب .
أخبرنا المسلم بن محمد القيسي كتابة ، أخبرنا الكندي ، أخبرنا ابن زريق ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي ، عن أحمد بن محمد النسوي ، سمعت محمد بن الحسين الحافظ ، سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول : قال أبو القاسم الرازي : قال أبو بكر بن ممشاذ : حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة ، ففتشوها ، فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه : من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان . فوجه إلى بغداد ، فأحضر ، وعرض عليه ، فقال : هذا خطي ، وأنا كتبته . فقالوا : كنت تدعي النبوة ، صرت تدعي الربوبية ؟ ! قال : لا ، ولكن هذا عين الجمع عندنا ، هل الكاتب إلا الله وأنا ؟ فاليد فيه آلة . فقيل : هل معك أحد ، قال : نعم ، ابن عطاء ، وأبو محمد الحريري ، والشبلي ، فأحضر الجريري ، وسئل ، فقال : هذا كافر ، يقتل من يقول هذا . وسئل الشبلي ، فقال : من يقول هذا يمنع . وسئل ابن عطاء ، فوافق الحلاج ، فكان سبب قتله .
قلت : أما أبو العباس بن عطاء فلم يقتل ، وكلم الوزير بكلام غليظ لما سأله ، وقال : ما أنت وهذا ؟ اشتغلت بظلم الناس . فعزره . وقال السلمي : حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان قال : كان الوزير حين أحضر الحلاج للقتل حامد بن العباس ، فأمره أن يكتب اعتقاده ، فكتب اعتقاده ، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد ، فأنكروه ، فقيل لحامد : إن ابن عطاء يصوب قوله . فأمر [ ص: 329 ] به . فعرض على ابن عطاء ، فقال : هذا اعتقاد صحيح ، ومن لم يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد . فأحضر إلى الوزير ، فجاء ، وتصدر في المجلس ، فغاظ الوزير ذلك ، ثم أخرج ذلك الخط ، فقال : أتصوب هذا ؟ قال : نعم ، ما لك ولهذا ؟ عليك بما نصبت له من المصادرة والظلم ، ما لك وللكلام في هؤلاء السادة ؟ فقال الوزير : فكيه . فضرب فكاه ، فقال أبو العباس : اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه . فقال الوزير : خفه يا غلام . فنزع خفه . فقال : دماغه . فما زال يضرب دماغه حتى سال الدم من منخريه . ثم قال : الحبس . فقيل : أيها الوزير ، يتشوش العامة . فحمل إلى منزله .
وروى أبو إسحاق البرمكي ، عن أبيه ، عن جده قال : حضرت بين يدي أبي الحسن بن بشار ، وعنده أبو العباس الأصبهاني ، فذاكره بقصة الحلاج ، وأنه لما قتل كتب ابن عطاء إلى ابن الحلاج كتابا يعزيه عن أبيه ، وقال : رحم الله أباك ، ونسخ روحه في أطيب الأجساد . فدل هذا على أنه يقول بالتناسخ ، فوقع الكتاب في يد حامد ، فأحضر أبا العباس بن عطاء وقال : هذا خطك ؟ قال : نعم . قال : فإقرارك أعظم . قال : فشيخ يكذب ؟ ! فأمر به ، فصفع ، فقال أبو الحسن بن بشار : إني لأرجو أن يدخل الله حامد بن العباس الجنة بذلك الصفع .
قال السلمي أكثر المشايخ ردوا الحلاج ونفوه ، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف ، وقبله ابن عطاء ، وابن خفيف ، والنصرآباذي .
قلت : قد مر أن ابن خفيف عرض عليه شيء من كلام الحلاج ، فتبرأ منه .
[ ص: 330 ] وقال محمد بن يحيى الرازي : سمعت عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي . فقلت : أيش وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله فقال : يمكنني أن أؤلف مثله .
وقال أبو يعقوب الأقطع : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده ، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر ، محتال ، كافر .
وقال أبو يعقوب النعماني : سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه يقول : إن كان ما أنزل الله على نبيه حقا ، فما يقول الحلاج باطل . وكان شديدا عليه .
السلمي : سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول : ما تجرد أحد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود . وبلغني أنه لما أخرج إلى القتل تغير وجه حامد بن العباس ، فقال له بعض الفقهاء : لا تشكن أيها الوزير ، إن كان ما جاء به محمد حقا ، فما يقول هذا باطل .
السلمي : سمعت الحسين بن يحيى ، سمعت جعفرا الخلدي وسئل عن الحلاج ، فقال : أعرفه وهو حدث ، كان هو والفوطي يصحبان عمرا المكي وهو يحلج .
السلمي : سمعت جعفر بن أحمد يقول : سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول : الحلاج مموه ممخرق .
قال السلمي : وبلغني أنه وقف على الجنيد ، فقال : أنا الحق . قال : بل أنت بالحق ، أي خشبة تفسد .
السلمي : سمعت أبا بكر بن غالب يقول : سمعت بعض أصحابنا [ ص: 331 ] يقول : لما أرادوا قتل الحلاج ، أحضر لذلك الفقهاء ، فسألوه : ما البرهان؟ قال : شواهد يلبسها الحق لأهل الإخلاص ، يجذب في النفوس إليها جاذب القبول . فقالوا بأجمعهم : هذا كلام أهل الزندقة .
فنقول : بل من وزن نفسه وزمها بالكتاب والسنة ، فهو صاحب برهان وحجة ، فما أخيب سهم من فاته ذلك !