قلت : هذا عين الزندقة ; فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة ، فهل وحدوه -تعالى- إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من قالها من قلبه ، فقد حرم ماله ودمه .
[ ص: 343 ] وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فإذا برئ الصوفي منها ، فهو ملعون زنديق ، وهو صوفي الزي والظاهر ، متستر بالنسب إلى العارفين ، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل ، كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- منتسبين إلى صحبته وإلى ملته ، وهم في الباطن من مردة المنافقين ، قد لا يعرفهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا يعلم بهم .
قال الله تعالى : " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين " فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات ، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته ، فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي ، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله ، وانهتك باطنه وزندقته ، فلا هذا ولا هذا ; بل العدل أن من رآه المسلمون صالحا محسنا فهو كذلك ; لأنهم شهداء الله في أرضه إذ الأمة لا تجتمع على [ ص: 344 ] ضلالة وأن من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا ، فهو كذلك .
وأن من كان طائفة من الأمة تضلله ، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله ، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه ، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه ، وأن يفوض أمره إلى الله ، وأن يستغفر له في الجملة ; لأن إسلامه أصلي بيقين ، وضلاله مشكوك فيه ، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين .
ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم ، مؤمنهم وفاسقهم ، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج ، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك ، فهذا الصديق فرد الأمة ، قد علمت تفرقهم فيه ، وكذلك عمر ، وكذلك عثمان ، وكذلك علي ، وكذلك ابن الزبير ، وكذلك الحجاج ، وكذلك المأمون ، وكذلك بشر المريسي ، وكذلك ، أحمد بن حنبل ، والشافعي ، والبخاري ، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا ، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه ، وما من رأس في [ ص: 345 ] البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له ، ويذبون عنه ، ويدينون بقوله بهوى وجهل ; وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل ، المتصفين بالورع والعلم . والنسائي
فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رءوس القرامطة ، ودعاة الزندقة ، وأنصف وتورع واتق ذلك ، وحاسب نفسك ، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام ، محب للرئاسة ، حريص على الظهور بباطل وبحق ، فتبرأ من نحلته ، وإن تبرهن لك -والعياذ بالله- أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق ، وأن يثبت قلبك على دينه ; فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم ، ولا قوة إلا بالله ، وإن شككت ولم تعرف حقيقته ، وتبرأت مما رمي به ، أرحت نفسك ، ولم يسألك الله عنه أصلا .
السلمي : سمعت محمد بن أحمد بن الحسن الوراق : سمعت إبراهيم بن عبد الله القلانسي الرازي يقول : لما صلب الحلاج -يعني في النوبة الأولى- وقفت عليه ، فقال : إلهي ، أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب ; إلهي ، إنك تتودد إلى من يؤذيك ، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك .
السلمي : سمعت أبا العباس الرازي يقول : كان أخي خادما للحلاج ، فلما كانت الليلة التي يقتل فيها من الغد قلت : أوصني يا سيدي . فقال : عليك نفسك ، إن لم تشغلها شغلتك . فلما أخرج كان يتبختر في قيده ويقول : [ ص: 346 ] نديمي غير منسوب إلى شيء من الحيف سقاني مثل ما يشرب فعل الضيف بالضيف فلما دارت الكأس دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الكأس مع التنين في الصيف ثم قال : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ثم ما نطق بعد .
وله أيضا . يا نسيم الريح قولي للرشا
لم يزدني الورد إلا عطشا روحه روحي وروحي فله إن يشا شئت وإن شئت يشا
وقال أبو عمر بن حيويه : لما أخرج الحلاج ليقتل ، مضيت وزاحمت حتى رأيته ، فقال لأصحابه : لا يهولنكم ; فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما . فهذه حكاية صحيحة توضح لك أن الحلاج ممخرق كذاب ، حتى عند قتله . وقيل : إنه لما أخرج للقتل أنشد : طلبت المستقر بكل أرض فلم أر لي بأرض مستقرا أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا
قال : جمعت كتابا سميته : " القاطع بمحال [ ص: 347 ] المحاج بحال أبو الفرج ابن الجوزي الحلاج " . وبلغ من أمره أنهم قالوا : إنه إله ، وإنه يحيي الموتى .
قال الصولي : أول من أوقع بالحلاج الأمير أبو الحسين علي بن أحمد الراسبي ، وأدخله بغداد وغلاما له على جملين قد شهرهما في سنة إحدى وثلاثمائة ، وكتب معهما كتابا : إن البينة قامت عندي أن الحلاج يدعي الربوبية ، ويقول بالحلول . فحبس مدة .
قال الصولي : قيل : إنه كان في أول أمره يدعو إلى الرضا من آل محمد ، وكان يري الجاهل أشياء من شعبذته ، فإذا وثق منه دعاه إلى أنه إله .
وقيل : إن الوزير حامدا وجد في كتبه : إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيام وأفطر في رابع يوم على ورقات هندبا أغناه عن صوم رمضان ، وإذا صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى الغداة أغنته عن الصلاة بعد ذلك ، وإذا تصدق بكذا وكذا أغناه عن الزكاة .
ذكر ابن حوقل ، قال : ظهر من فارس الحلاج ينتحل النسك والتصوف ، فما زال يترقى طبقا عن طبق حتى آل به الحال إلى أن زعم : أنه من هذب في الطاعة جسمه ، وشغل بالأعمال قلبه ، وصبر عن اللذات ، وامتنع من الشهوات - يترق في درج المصافاة ، حتى يصفو عن البشرية طبعه ، فإذا صفا حل فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى ، فيصير مطاعا ، يقول للشيء : كن ، فيكون .
فكان الحلاج يتعاطى ذلك ويدعو إلى نفسه حتى استمال جماعة من الأمراء والوزراء ، وملوك الجزيرة والجبال والعامة ، ويقال : إن يده لما قطعت كتب الدم على الأرض : الله الله .
قلت : ما صح هذا ، ويمكن أن يكون هذا من فعله بحركة زنده .
قال محمد بن علي الصوري الحافظ : سمعت إبراهيم بن محمد بن [ ص: 348 ] جعفر البزاز يقول : سمعت أبا محمد الياقوتي يقول : رأيت الحلاج عند الجسر على بقرة ووجهه إلى ذنبها ، فسمعته يقول : ما أنا الحلاج ، ألقى الحلاج شبهه علي وغاب . فلما أدني من الخشبة التي يصلب عليها ، سمعته يقول :
يا معين الضنا علي أعني على الضنا
وعن أبي محمد المرتعش قال : من رأيته يدعي حالا مع الله باطنة ، لا يدل عليها أو يشهد لها حفظ ظاهر ، فاتهمه على دينه .
قيل : إن الحلاج كتب مرة إلى أبي العباس بن عطاء :
كتبت ولم أكتب إليك وإنما كتبت إلى روحي بغير كتاب
وذاك لأن الروح لا فرق بينها وبين محبيها بفصل خطاب
فكل كتاب صادر منك وارد إليك بلا رد الجواب جوابي