الوزير الكبير أبو الحسن ، علي بن أبي جعفر محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات العاقولي الكاتب . قال الصولي : ابتاع جدهم ضياعا بالعاقول ، وانتقل إليها ، فنسبوا إلى العاقول .
كان ابن الفرات يتولى أمر الدواوين زمن المكتفي ، فلما ولي المقتدر ووزر له العباس بن الحسن ، بقي ابن الفرات على ولايته ، فجرت [ ص: 475 ] فتنة ابن المعتز ، وقتل العباس الوزير ، فوزر ابن الفرات سنة ست وتسعين ، وتمكن ، فأحسن وعدل ، وكان سمحا مفضالا محتشما ، رأسا في حساب الديوان ، له ثلاثة بنين ، المحسن والفضل والحسين ، ثم عزل في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ، ثم وزر في سنة أربع وثلاثمائة إثر عزل علي بن عيسى ، ثم عزل بعد سبعة عشر شهرا بحامد بن العباس ، ثم وليها سنة 311 ، وولى ولده المحسن الدواوين ، فعسف وصادر وعذب ، وظلم أبوه أيضا ، واستأصل جماعة ، فعزل بعد سنة إلا أياما ، وقيل : إنه وصل المحدثين بعشرين ألف درهم .
وذكر جماعة أن صاحب خبر ابن الفرات رفع إليه أن رجلا من أرباب الحوائج اشترى خبزا وجبنا فأكله في الدهليز ، فأقلقه هذا ، وأمر بنصب مطبخ لمن يحضر من أرباب الحوائج ، فلم يزل ذلك طول أيامه .
قال ابن فارس اللغوي : حدثنا أبو الحسن البصري : قال لي رجل : كنت أخدم فحبس وله عندي خمسمائة دينار ، فتلطفت بالسجان حتى أدخلت ، فلما رآني تعجب وقال : ألك حاجة؟ فأخرجت الذهب وقلت : تنتفع بهذا ، فأخذه مني ، ثم رده وقال : يكون عندك وديعة . فرجعت . الوزير ابن الفرات ،
ثم أفرج عنه بعد مدة ، وعاد إلى دسته ، فأتيته ، فطأطأ رأسه ولم يملأ عينيه مني ، وطال إعراضه ، حتى أنفقت الذهب ، وساءت حالي إلى يوم ، فقال لي : وردت سفن من الهند ، ففسرها واقبض حق بيت المال ، وخذ رسمنا ، فعدت إلى بيتي ، فأعطتني المرأة خمارا وقرطتين ، فبعت ذلك ، وتجهزت به ، وانحدرت وفسرت السفن ، وقبضت الحق ورسم الوزير ، وأتيت بغداد ، فقال الوزير : سلم حق بيت المال ، واقبض الرسم إلى بيتك . قلت : هو خمسة وعشرون [ ص: 476 ] ألف دينار . قال : فحفظتها ، وطالت المدة . ورأى في وجهي ضرا ، فقال : ادن مني ، ما لي أراك متغير اللون ، سيئ الحال؟ فحدثته بقصتي . قال : ويحك! وأنت ممن ينفق في مدة يسيرة خمسة وعشرين ألفا؟!
قلت : ومن أين لي ذلك؟ قال : يا جاهل ، ما قلت لك احملها إلى منزلك ، أتراني لم أجد من أودعه غيرك؟ ويحك! أما رأيت إعراضي عنك؟ إنما كان حياء منك ، وتذكرت جميل صنعك وأنا محبوس ، فصر إلى منزلك ، واتسع في النفقة ، وأنا أفكر لك في غير ذلك .
ذكر ابن مقلة أنه حضر مجلس ابن الفرات في أول وزارته ، فأدخل إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في محفة ، فدفع الوزير إليه عشرة آلاف درهم سرا ، فأنشد :
أياديك عندي معظمات جلائل طوال المدى شكري لهن قصير فإن كنت عن شكري غنيا فإنني
إلى شكر ما أوليتني لفقير
سمع الصولي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يقول : حين وزر ابن الفرات ما افتقرت الوزارة إلى أحد قط افتقارها إليه .
قال الصولي : لما قبض على ابن الفرات ، نظرنا فإذا هو يجري على خمسة آلاف نفس ، أقل جاري أحدهم في الشهر خمسة دراهم ونصف قفيز دقيق ، وأعلاهم مائة دينار وعشرة أقفزة .
الصولي : حدثني أحمد بن العباس النوفلي : أنهم كانوا يجالسون ابن الفرات قبل الوزارة ، وجلس معهم ليلة لما وزر ، فلم يجئ الفراشون [ ص: 477 ] بالتكأ ، فغضب عليهم وقال : إنما رفعني الله لأضع من جلسائي؟! والله! لا جالسوني إلا بتكاءين . فكنا كذلك ليالي حتى استعفينا ، فقال : والله ما أريد الدنيا إلا لخير أقدمه أو صديق أنفعه ، ولولا أن النزول عن الصدر سخف لا يصلح لمثل حالي لساويتكم في المجلس .
قال الصولي : لم أسمعه قط دعا أحدا من كتابه بغير كنيته ، ومرض مرة فقال : ما غمي بعلتي بأشد من غمي بتأخر حوائج الناس وفيهم المضطر .
وكان يمنع الناس من المشي بين يديه .
ومن شعره -ويقال ما عمل غيرهما- :
معذبتي هل لي إلى الوصل حيلة وهل إلى استعطاف قلبك من وجه
فلا خير في الدنيا وأنت بخيلة ولا خير في وصل يجيء على كره
وقيل عنه : إنه كاتب العرب أن يكبسوا بغداد . فالله أعلم .
ولما وزر في سنة أربع خلع عليه سبع خلع ، وسقي يومئذ في داره أربعون ألف رطل ثلج .
قال الصولي : مدحته فوصلني بستمائة دينار .
قال علي بن هشام الكاتب : دخلت على ابن الفرات في وزارته الثالثة وقد غلب ابنه المحسن عليه في أكثر أموره ، فقيل له : هو ذا يسرف [ ص: 478 ] أبو أحمد المحسن في مكاره الناس بلا فائدة ، ويضرب من يؤدي بغير ضرب . فقال : لو لم يفعل هذا بأعدائه ومن أساء إليه لما كان من أولاد الأحرار ، ولكان ميتا ، وقد أحسنت إلى الناس دفعتين فما شكروني ، والله لأسيئن . فما مضت إلا أيام يسيرة حتى قبض عليه .
قال الصولي : لما وزر ابن الفرات ثالثا خرج متغيظا على الناس لما كان فعله حامد الوزير بابنه المحسن ، فأطلق يد ابنه على الناس ، فقتل حامدا بالعذاب ، وأبار العالم ، وكان مشئوما على أهله ، ماحيا لمناقبهم .
قال المعتضد لعبد الله وزيره : أريد أعرف ارتفاع الدنيا . فطلب الوزير ذلك من جماعة ، فاستمهلوه شهرا ، وكان ابن الفرات وأخوه أبو العباس محبوسين ، فأعلما بذلك ، فعملاه في يومين وأنفذاه ، فأخرجا وعفي عنهما .
وكان أخوه أبو العباس أحمد أكتب أهل زمانه ، وأوفرهم أدبا ، امتدحه البحتري ومات سنة إحدى وتسعين ومائتين .
وأخوهما جعفر عرضت عليه الوزارة فأباها .
قال الصولي : قبض المقتدر على ابن الفرات ، وهرب ابنه ، فاشتد السلطان وجميع الأولياء في طلبه ، إلى أن وجد ، وقد حلق لحيته ، وتشبه بامرأة في خف وإزار ، ثم طولب هو وأبوه بالأموال ، وسلما إلى الوزير عبيد [ ص: 479 ] الله بن محمد ، فعلما أنهما لا يفلتان ، فما أذعنا بشيء ، ثم قتلهما نازوك ، وبعث برأسيهما إلى المقتدر في سفط ، وغرق جسديهما .
وقال القاضي أحمد بن إسحاق بن البهلول بعد أن عزل ابن الفرات من وزارته الثالثة :
قل لهذا الوزير قول محق بثه النصح أيما إبثاث
قد تقلدتها ثلاثا ثلاثا وطلاق البتات عند الثلاث
ابن أخيه : الوزير الأكمل :