هو المعز لدين الله ، أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم ، العبيدي المهدوي المغربي الذي بنيت القاهرة المعزية له كان صاحب المغرب ، وكان ولي عهد أبيه .
ولي سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ، وسار في نواحي إفريقية يمهد ملكه ، فذلل الخارجين عليه ، واستعمل مماليكه على المدن ، واستخدم الجند ، وأنفق الأموال وجهز مملوكه جوهرا القائد في الجيوش [ ص: 160 ] فسار ، فافتتح سجلماسة ، وسار إلى أن وصل إلى البحر الأعظم ، وصيد له من سمكه ، وافتتح مدينة فاس ، وأسر صاحبها وصاحب سبتة ، وبعث بهما إلى أستاذه وقيل : لم يقدر على سبتة ، وكانت لصاحب الأندلس المرواني .
قال القفطي عزم المعز على بعث جيشه إلى مصر ، فسألته أمه أن يؤخر ذلك لتحج خفية ، فأجابها ، وحجت ، فأحس بقدومها الأستاذ كافور -يعني : صاحب مصر - فحضر إليها وخدمها ، وحمل إليها تحفا ، وبعث في خدمتها أجنادا ، فلما رجعت منعت ابنها من قصد مصر ، فلما مات كافور بعث المعز جيشه ، فأخذوا مصر .
قلت : قدم عليهم جوهرا ، فجنى ما على البربر من الضرائب ، فكان ذلك خمسمائة ألف دينار ، وعمد المعز إلى خزائن آبائه ، فبذل منها خمسمائة حمل من المال ، وساروا في أول سنة ثمان وخمسين في أهبة عظيمة .
وكانت مصر في القحط ، فأخذها جوهر ، وأخذ الشام والحجاز . ونفذ يعرف مولاه بانتظام الأمر .
وضربت السكة على الدينار بمصر وهي : " لا إله إلا الله محمد رسول [ ص: 161 ] الله ، علي خير الوصيين " . والوجه الآخر اسم المعز والتاريخ وأعلن الأذان بحي على خير العمل ونودي : من مات عن بنت وأخ أو أخت فالمال كله للبنت . فهذا رأي هؤلاء .
ثم جهز جوهر هدية إلى المعز ، وهي عشرون كجاوه منها واحدة مرصعة بالجواهر ، وخمسون فرسا كاملة العدة ، وخمس وخمسون ناقة مزينة ، وثلاثمائة وخمسون جملا بخاتي ، وعدة أحمال من نفائس المتاع ، وطيور في أقفاص ، سار بها جعفر ولد جوهر ، ومعه عدة أمراء إخشيدية تحت الحوطة مكرمين واعتقل أبناء الملك علي بن الإخشيد في رفاهية ، وأحسن إلى الرعية ، وتصدق بمال عظيم .
وأخذت الرملة بالسيف ، وأسر صاحبها الحسن بن أخي الإخشيد وأمراؤه ، وبعثوا إلى المغرب .
وأمر الأعيان بأن يعولوا المساكين لشدة الغلاء .
فتهيأ المعز ، واستناب على المغرب بلكين الصنهاجي ، وسار بخزائنه وتوابيت آبائه وكان دخوله إلى الإسكندرية في شعبان سنة اثنتين [ ص: 162 ] وستين وثلاثمائة ، وتلقاه قاضي مصر الذهلي وأعيانها ، فأكرمهم وطال حديثه معهم ، وعرفهم أن قصده الحق والجهاد ، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة ، وأن يقيم أوامر جده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ووعظ وذكر حتى أعجبهم ، وبكى بعضهم ، ثم خلع عليهم وقال للقاضي أبي الطاهر الذهلي : من رأيت من الخلفاء ؟ فقال : واحدا . قال من هو ؟ قال : مولانا . فأعجبه ذلك .
ثم أنه سار حتى خيم بالجيزة ، فأخذ عسكره في التعدية إلى الفسطاط ، ثم دخل القاهرة ، وقد بني له بها قصر الإمارة ، وزينت مصر ، فاستوى على سرير ملكه ، وصلى ركعتين .
وكان عاقلا لبيبا حازما ذا أدب وعلم ومعرفة وجلالة وكرم ، يرجع في الجملة إلى عدل وإنصاف ، ولولا بدعته ورفضه لكان من خيار الملوك .
قيل : إن زوجة صاحب مصر الإخشيد لما زالت دولتهم أودعت عند يهودي بغلطاقا من جوهر ، ثم إنها طلبته منه ، فأنكره وصمم ، فبذلت له كمه ، فأصر ، فما زالت حتى قالت : خذه ، وهات كما منه . فما فعل .
فأتت القصر ، فأذن المعز لها ، فحدثته بأمرها ، فأحضر اليهودي ، وقرره فلم يقر . فنفذ إلى داره من أخرب حيطانها ، فوجدوا جرة فيها البغلطاق ، فلما رآه المعز ابتهر من حسنه ، وقد نقصه اليهودي درتين باعهما بألف وستمائة دينار ، فسلمه إليها ، فاجتهدت أن يأخذه هدية منها أو بثمن فأبى ، فقالت : [ ص: 163 ] يا أمير المؤمنين ، إنما كان يصلح لي إذ كنا أصحاب البلاد ، وأما اليوم فلا . ثم أخذته ومضت .
قيل : إن المنجمين أخبروا المعز أن عليك قطعا ، فأشاروا أن يتخذ سربا يتوارى فيه سنة ، ففعل .
فلما طالت الغيبة ظن جنده المغاربة أنه رفع ، فكان الفارس منهم إذا رأى غمامة ترجل ، ويقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين . ثم إنه خرج بعد سنة ، فخرج فما عاش بعدها إلا يسيرا .
وللشعراء فيه مدائح .
ومن شعره :
أطلع الحسن من جبينك شمسا فوق ورد من وجنتيك أطلا
فكأن الجمال خاف على الور د ذبولا فمد بالشعر ظلا
لله ما صنعت بنا تلك المحاجر في المعاجر
أمضى وأقضى في النفوس من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم تعب المهاجر في الهواجر
قلت : ظهر هذا الوقت الرفض ، وأبدى صفحته ، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العبيدية ، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه ، وكان الخليفة المطيع ضعيف الدست والرتبة مع بني بويه ، ثم ضعف بدنه ، وأصابه فالج وخرس ، فعزلوه وأقاموا ابنه الطائع لله ، وله السكة والخطبة ، وقليل من الأمور ، فكانت مملكة هذا المعز أعظم وأمكن ، وكذلك دولة صاحب الأندلس المستنصر بالله المرواني ، كانت موطدة مستقلة كوالده الناصر لدين الله الذي ولي خمسين عاما .
وأعلن الأذان بالشام ومصر بحي على خير العمل . فلله الأمر كله .
قيل : ما عرف عن المعز غير التشيع ، وكان يطيل الصلاة ، ومات قبله [ ص: 165 ] بسنة ابنه عبد الله ، ولي العهد ، وصبر . وغلقت مصر لعزائه ثلاثا ، وشيعوه بلا عمائم ; بل بمناديل صوف ، فأمهم المعز بأتم صلاة وأحسنها .
في سنة ستين وثلاثمائة وجد بالسوق . . . . قد نسج فيه : " المعز عز وجل " ، فأحضر [ النساج ] إلى جوهر ، فأنكر ذلك ، وصلب النساج ثم أطلق .
وأخذ المحتسب من الطحانين سبعمائة دينار فأنكر عليه جوهر ، ورد الذهب إليهم .
وأبيع تليس الدقيق بتسعة عشر دينارا ، ثم انحل السعر في سنة ستين وثلاثمائة ، وكان الغلاء أربع سنين .
وقبض جوهر على تسعمائة وأربعين جنديا والإخشيد في وقت واحد ، وقيدوا .
وثارت عليه القرامطة ، واستولوا على كثير من الشام ، وساروا حتى أتوا مصر ، فحاربهم جوهر ، وجرت أمور مهولة .
وعزل سنة 361 من الوزارة ابن حنزابة ، وأهين .
ووقع المصاف بين جوهر والقرامطة ، وقتل خلق وذلك بظاهر القاهرة ، [ ص: 166 ] واستمر ذلك ثلاثة أيام ، ثم ترحل الأعسم القرمطي منهزما وذلوا ، واتهم الأعسم أمراءه بالمخامرة ، فقبض عليهم .
وصلى بالناس المعز يومي العيد صلاة طويلة بحيث إنه سبح في السجود نحو ثلاثين ، ثم خطبهم فأبلغ ، وأحبته الرعية .
وصنع شمسية لتعمل على الكعبة ثمانية أشبار في مثلها من حرير أحمر ، وفيها اثنا عشر هلالا من ذهب ، وفي الهلال ترنجة قد رصعت بجواهر وياقوت وزمرد ، لم يشاهد أحد مثلها .
وقدم له جوهر القائد تحفا بنحو من ألف ألف دينار ، فخلع عليه ، وأعطاه ما يليق به .
مات المعز في ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة بالقاهرة المعزية ، وكان مولده بالمهدية التي بناها جدهم ، وعاش ستا وأربعين سنة . وكانت دولته أربعا وعشرين سنة .
وقام بعده ابنه العزيز بالله .
[ ص: 167 ] وقد جرى على دمشق وغيرها من عساكر المغاربة كل قبيح من القتل والنهب ، وفعلوا ما لا يفعله الفرنج ، ولولا خوف الإطالة لسقت ما يبكي الأعين .