الإمام الحافظ ، المجود المقرئ ، الحاذق ، عالم الأندلس أبو عمرو ; عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي ، مولاهم الأندلسي ، القرطبي ثم الداني ، ويعرف قديما بابن الصيرفي ، مصنف " التيسير " و " جامع البيان " ، وغير ذلك .
ذكر أن والده أخبره أن مولدي في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فابتدأت بطلب العلم في أول سنة ست وثمانين ، ورحلت إلى المشرق سنة سبع وتسعين ، فمكثت بالقيروان أربعة أشهر ، ثم توجهت إلى مصر ، فدخلتها في شوال من السنة ، فمكثت بها سنة ، وحججت . [ ص: 78 ]
قال : ورجعت إلى الأندلس في ذي القعدة سنة تسع ، وخرجت إلى الثغر في سنة ثلاث وأربعمائة ، فسكنت سرقسطة سبعة أعوام ، ثم رجعت إلى قرطبة . قال : وقدمت دانية سنة سبع عشرة وأربعمائة .
قلت : فسكنها حتى مات .
سمع أبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب ; صاحب البغوي ، وهو أكبر شيخ له ، وأحمد بن فراس المكي ، وعبد الرحمن بن عثمان القشيري الزاهد ، وعبد العزيز بن جعفر بن خواستي الفارسي ، نزيل الأندلس ، وخلف بن إبراهيم بن خاقان المصري ، وتلا عليهما ، وحاتم بن عبد الله البزاز ، وأحمد بن فتح بن الرسان ، ومحمد بن خليفة بن عبد الجبار ، وأحمد بن عمر بن محفوظ الجيزي ، وسلمة بن سعيد الإمام ، وسلمون بن داود القروي وأبا محمد بن النحاس المصري ، وعلي بن محمد بن بشير الربعي ، وعبد الوهاب بن أحمد بن منير ، ومحمد بن عبد الله بن عيسى الأندلسي ، وأبا عبد الله بن أبي زمنين ، وأبا الحسن علي بن محمد القابسي ، وعدة .
وتلا أيضا على أبي الحسن طاهر بن غلبون ، وأبي الفتح فارس بن أحمد الضرير ، وسمع سبعة ابن مجاهد من أبي مسلم الكاتب [ ص: 79 ] بسماعه منه ، وصنف التصانيف المتقنة السائرة .
حدث عنه وقرأ عليه عدد كثير ، منهم : ولده أبو العباس ، وأبو داود سليمان بن أبي القاسم نجاح ، وأبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن الدش ، وأبو الحسين يحيى بن أبي زيد بن البياز ، وأبو الذواد مفرج الإقبالي ، وأبو بكر محمد بن المفرج البطليوسي ، وأبو بكر بن الفصيح ، وأبو عبد الله محمد بن مزاحم ، وأبو علي الحسين بن محمد بن مبشر ، وأبو القاسم خلف بن إبراهيم الطليطلي ، وأبو عبد الله محمد بن فرج المغامي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي ; نزيل الإسكندرية ، وأبو القاسم ابن العربي ، وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن الفرج التجيبي المغامي ، وأبو تمام غالب بن عبيد الله القيسي ، ومحمد بن أحمد بن سعود الداني ، وخلف بن محمد المريي بن العريبي ، وخلق كثير .
وروى عنه بالإجازة : أحمد بن محمد الخولاني ، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة المرسي ; خاتمة من روى عنه في الدنيا ، وعاش بعده سبعا وثمانين سنة ، وهذا نادر ولا سيما في المغرب .
قال المغامي : كان أبو عمرو مجاب الدعوة ، مالكي المذهب .
وقال هو محدث مكثر ، ومقرئ متقدم ، سمع الحميدي بالأندلس والمشرق . [ ص: 80 ]
قلت : المشرق في عرف المغاربة مصر وما بعدها من الشام والعراق ، وغير ذلك ، كما أن المغرب في عرف العجم وأهل العراق أيضا مصر ، وما تغرب عنها .
قال أبو القاسم بن بشكوال كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن : رواياته وتفسيره ومعانيه ، وطرقه وإعرابه ، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا مفيدة ، وله معرفة بالحديث وطرقه ، وأسماء رجاله ونقلته ، وكان حسن الخط ، جيد الضبط ، من أهل الذكاء والحفظ ، والتفنن في العلم ، دينا فاضلا ، ورعا سنيا .
وفي فهرس ابن عبيد الله الحجري قال : والحافظ أبو عمرو الداني ، قال بعض الشيوخ : لم يكن في عصره ولا بعد عصره أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه ، وكان يقول : ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ، ولا كتبته إلا وحفظته ، ولا حفظته فنسيته . وكان يسأل عن المسألة مما يتعلق بالآثار وكلام السلف ، فيوردها بجميع ما فيها مسندة من شيوخه إلى قائلها .
قلت : إلى أبي عمرو المنتهى في تحرير علم القراءات ، وعلم المصاحف ، مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو ، وغير ذلك .
ألف كتاب " جامع البيان في السبع " ثلاثة أسفار في مشهورها وغريبها ، وكتاب " التيسير " وكتاب " الاقتصاد " في السبع ، [ ص: 81 ] و " إيجاز البيان " في قراءة ورش ، و " التلخيص " في قراءة ورش أيضا ، و " المقنع " في الرسم ، وكتاب " المحتوى في القراءات الشواذ " ، فأدخل فيها قراءة يعقوب وأبي جعفر ، وكتاب " طبقات القراء " في مجلدات ، و " الأرجوزة في أصول الديانة " ، وكتاب " الوقف والابتداء " ، وكتاب " العدد " ، وكتاب " التمهيد في حرف نافع " مجلدان ، وكتاب " اللامات والراءات " لورش ، وكتاب " الفتن الكائنة " ; مجلد يدل على تبحره في الحديث ، وكتاب " الهمزتين " مجلد ، وكتاب " الياءات " مجلد ، وكتاب " الإمالة " لابن العلاء مجلد . وله تواليف كثيرة صغار في جزء وجزئين .
وقد كان بين أبي عمرو ، وبين وحشة ومنافرة شديدة ، أفضت بهما إلى التهاجي ، وهذا مذموم من الأقران ، موفور الوجود . نسأل الله الصفح . أبي محمد بن حزم وأبو عمرو أقوم قيلا ، وأتبع للسنة ، ولكن أبا محمد أوسع دائرة في العلوم ، بلغت تواليف أبي عمرو مائة وعشرين كتابا .
وهو القائل في أرجوزته السائرة :
تدري أخي أين طريق الجنه طريقها القرآن ثم السنه كلاهما ببلد الرسول
وموطن الأصحاب خير جيل فاتبعن جماعة المدينه
فالعلم عن نبيهم يروونه [ ص: 82 ] وهم فحجة على سواهم
في النقل والقول وفي فتواهم واعتمدن على الإمام مالك
إذ قد حوى على جميع ذلك في الفقه والفتوى إليه المنتهى
وصحة النقل وعلم من مضى
وحك ما تجد للقياس داود في دفتر أو قرطاس
من قوله إذ خرق الإجماعا وفارق الأصحاب والأتباعا
واطرح الأهواء والمراء وكل قول ولد الآراء
ومن عقود السنة الإيمان بكل ما جاء به القرآن
وبالحديث المسند المروي عن الأئمة عن النبي
وأن ربنا قديم لم يزل وهو دائم إلى غير أجل
كلم موسى عبده تكليما ولم يزل مدبرا حكيما
كلامه وقوله قديم وهو فوق عرشه العظيم
والقول في كتابه المفصل بأنه كلامه المنزل
على رسوله النبي الصادق ليس بمخلوق ولا بخالق
من قال فيه : إنه مخلوق أو محدث فقوله مروق
والوقف فيه بدعة مضله ومثل ذاك اللفظ عند الجله
كلا الفريقين من الجهميه الواقفون فيه واللفظيه
أهون بقول جهم الخسيس وواصل وبشر المريسي
ذي السخف والجهل وذي العناد معمر وابن أبي دواد وابن عبيد شيخ الاعتزال
وشارع البدعة والضلال [ ص: 83 ] والجاحظ القادح في الإسلام
وجبت هذي الأمة النظام والفاسق المعروف بالجبائي
ونجله السفيه ذي الخناء واللاحقي وأبي هذيل مؤيدي الكفر
بكل ويل وذي العمى ضرار المرتاب وشبههم من أهل الارتياب
وبعد فالإيمان قول وعمل ونية عن ذاك ليس ينفصل
فتارة يزيد بالتشمير وتارة ينقص بالتقصير
وحب أصحاب النبي فرض ومدحهم تزلف وفرض
وأفضل الصحابة الصديق وبعده المهذب الفاروق
منها :
ومن صحيح ما أتى به الخبر وشاع في الناس قديما وانتشر
نزول ربنا بلا امتراء في كل ليلة إلى السماء
من غير ما حد ولا تكييف سبحانه من قادر لطيف
ورؤية المهيمن الجبار وأننا نراه بالأبصار
يوم القيامة بلا ازدحام كرؤية البدر بلا غمام
وضغطة القبر على المقبور وفتنة المنكر والنكير
فالحمد لله الذي هدانا لواضح السنة واجتبانا
وهي أرجوزة طويلة جدا .
مات أبو عمرو يوم نصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة ودفن ليومه بعد العصر بمقبرة دانية ، ومشى سلطان البلد أمام نعشه ، وشيعه خلق عظيم ، رحمه الله تعالى .