سلطان الثغر الشمالي من الأندلس ودار ملكه بطليوس .
كان رأسا في العلم والأدب والشجاعة والرأي ، فكان مناغرا للروم ، شجى في حلوقهم ، لا ينفس لهم مخنقا ، ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى ، وله أداب تغير سراياها ، فتسبي عذارى معان لا [ ص: 595 ] تعشق المحامد إلا إياها ، ألفاظ كالزلزال ، وأغراض أبعد من الهلال ، رائق النظم ، ذكي النور ، رصيف المعاني ، شاهق الغور ، وله تأليف كبير في الأداب على هيئة " عيون الأخبار " لابن قتيبة ، يكون عشر مجلدات ، ومن نثره - وقد غنم بلاد شلمنكة وهي مجاورته ، فكتب إلى المعتمد بالله يفخر ، وينكت عليه بمسالمته للروم ، فقيل : إنه حصل من هذه الغزوة ألف جارية حسناء من بنات الأصفر - : من يصد صيدا فليصد كما صيدي ، صيدي الغزالة من مرابض الأسد . أيها الملك إن الروم إذا لم تغز غزت ، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فللنا حدهم ، وأذللنا جدهم ورأي السيد المعتمد على الله سراج تضيء به ظلمات المنى .
وللمظفر تفسير للقرآن .
وكان مع استغراقه في الجهاد لا يفتر عن العلم ، ولا يترك العدل ، صنع مدرسة يجلس فيها كل جمعة ، ويحضره العلماء وكان يبيت في منظرة له ، فإذا سمع صوتا وجه أعوانا لكشف الخبر ، لا ينام إلا قليلا .
وفيه يقول أبو الأصبغ القلمندر الكاتب :
يربي على سيب الغمام عطاؤه ملك على فلك العلى استمطاؤه سيف رقاب عدوه أغماده
تسقيه بالغيث المغيث دماؤه
وكان كاتبه الوزير أبو محمد عبد الله بن النحوي أحد البلغاء ، [ ص: 596 ] فكتب أذفونش - لعنه الله - يرعد ويبرق فأجاب : وصل إلى الملك المظفر من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير ، يرعد ويبرق ، ويجمع تارة ويفرق ، ويهدد بالجنود الوافرة ، ولم يدر أن لله جنودا أعز بهم الإسلام ، وأظهر بهم دين نبينا - عليه الصلاة والسلام - يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم ، فأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم ، فبالذنوب المركوبة ، والفرق المنكوبة ، ولو اتفقت كلمتنا علمت أي صائب أذقناك ، كما كانت أباؤك مع أبائنا ، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك ، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد في كل عام عليه ، ونحن فإن قلت أعدادنا ، وعدم من المخلوقين استمدادنا ، فما بيننا وبينك بحر تخوضه ، ولا صعب تروضه ، إلا سيوف يشهد بحدها رقاب قومك ، وجلاد تبصره في يومك ، وبالله وملائكته نتقوى عليك ، ليس لنا سواه مطلب ، ولا إلى غيره مهرب ، وهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، شهادة ، أو نصر عزيز .
ولما توفي المظفر بعد السبعين وأربعمائة أو قبلها ، قام في الملك بعده ولده الملقب بالمتوكل على الله أبو حفص عمر بن الأفطس صاحب بطليوس ويابرة وشنترين وأشبونة ، فكان نحوا من أبيه في الشجاعة والبراعة والأدب والبلاغة ، فبقي إلى أن قتله المرابطون جند [ ص: 597 ] يوسف بن تاشفين صبرا ، وقتلوا معه ولديه الفضل وعباسا ، في سنة خمس وثمانين وأربعمائة إذ استولوا على الأندلس .
ولعبد المجيد بن عيذون فيهم قصيدة طنانة نادرة المثل ، منها :
بني المظفر والأيام لا نزلت مراحل والورى منها على سفر
من للأسرة أو من للأعنة أو من للأسنة يهديها إلى الثغر
من للبراعة أو من لليراعة أو من للشجاعة أو للنفع والضرر
وهي طويلة ، وكان ابن عيذون وزيرا للمتوكل .