ابن الحطيئة
الشيخ الإمام العلامة القدوة ، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام اللخمي المغربي الفاسي المقرئ الناسخ ابن الحطيئة .
مولده بفاس سنة ثمان وسبعين وأربعمائة .
[ ص: 345 ] وحج ، ولقي الكبار ، وتلا بالسبع على أبي القاسم بن الفحام الصقلي وغيره .
وسمع من أبي الحسن بن مشرف ، وأبي عبد الله الحضرمي ، وأبي بكر الطرطوشي .
حدث عنه : أبو طاهر السلفي وهو أكبر منه ، وصنيعة الملك ابن حيدرة ، وشجاع بن محمد المدلجي ، والأثير محمد بن محمد بن بنان وقرأ عليه ، وإسماعيل بن محمد اللمطي والنفيس أسعد بن قادوس خاتمة أصحابه .
وقد دخل الشام ، وزار ، وسكن مصر ، وتزوج ، وكان يعيش من الوراقة ، وعلم زوجته وبنته الكتابة ، فكتبتا مثله ، فكان يأخذ الكتاب ويقسمه بينه وبينهما ، فينسخ كل منهما طائفة من الكتاب ، فلا يفرق بين الخطوط إلا في شيء نادر ، وكان مقيما بجامع راشدة خارج الفسطاط ، ولأهل مصر حتى أمرائها العبيدية فيه اعتقاد كبير ، كان لا يقبل من أحد شيئا ، مع العلم والعمل والخوف والإخلاص .
وتلا -أيضا- بالسبع على أبي علي بن بليمة ، وعلى محمد بن إبراهيم الحضرمي .
وأحكم العربية والفقه ، وخطه مرغوب فيه لإتقانه وبركته .
وقد كان حصل قحط بمصر ، فبذل له غير واحد عطاء ، فأبى وقنع ، [ ص: 346 ] فخطب الفضل بن يحيى الطويل إليه بنته ، فزوجه ، ثم طلب منه أمها لتؤنسها ، ففعل ، فما أجمل تلطف هذا المرء في بر أبي العباس .
قال السلفي : كان ابن الحطيئة رأسا في القراءات ، وقرأت بخط أبي الطاهر بن الأنماطي قال : سمعت شيخنا شجاعا المدلجي وكان من خيار عباد الله يقول : كان شيخنا ابن الحطيئة شديدا في دين الله ، فظا غليظا على أعداء الله ، لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة مع عظم سلطانه ونفوذ أمره ، فما يحتشمه ، ولا يكرمه .
ويقول : أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض ، خالفوا الكتاب والسنة ، وكفروا بالله ، وكنت عنده يوما في مسجده بشرف مصر ، وقد حضره بعض وزراء المصريين ؛ أظنه ابن عباس ، فاستسقى في مجلسه ، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة ، فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده ، وصرخ صرخة ملأت المسجد ، وقال : واحرها على كبدي ، أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آنية الفضة ؟! لا والله لا تفعل ، وطرد الغلام ، فخرج ، وطلب الشيخ كوزا ، فجيء بكوز قد تثلم ، فشرب ، واستحيى من الشيخ ، فرأيته والله كما قال الله : يتجرعه ولا يكاد يسيغه .
قال : وأتى رجل إلى شيخنا ابن الحطيئة بمئزر ، وحلف بالطلاق ثلاثا لابد أن يقبله ، فوبخه على ذلك ، وقال : علقه على ذاك الوتد . فلم يزل على الوتد حتى أكله العث ، وتساقط ، وكان ينسخ بالأجرة ، وكان له على [ ص: 347 ] الجزية في السنة ثلاثة دنانير ، ولقد عرض عليه غير واحد من الأمراء أن يزيد جامكيته فما قبل ، وكان له من الموقع في قلوبهم مع كثرة ما يهينهم ما لم يكن لأحد سواه ، وعرضوا عليه القضاء بمصر ، فقال : والله لا أقضي لهم . . إلى أن قال شجاع : وكتب " صحيح " مسلم كله بقلم واحد ، وسمعته وقيل له : فلان رزق نعمة ومعدة ، فقال : حسدوه على التردد إلى الخلاء ، وسمعته كثيرا إذا ذكر -رضي الله عنه- يقول : طويت سعادة المسلمين في أكفان عمر بن الخطاب عمر .
وذكرنا في " طبقات القراء " أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين ، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس ، فاشترط عليهم شروطا صعبة ، منها أنه لا يقضي بمذهبهم -يعني الرفض- ، فلم يجيبوا إلا أن يقضي على مذهب الإمامية .
تلوت بالسبع من طريقه على أبي عبد الله محمد بن منصور النحوي ، عن الكمال العباسي ، عن شجاع المدلجي ، عنه .
وقرأت بخط ابن الأنماطي ، قال لي شيخنا شجاع : كان الشيخ أبو العباس قد أخذ نفسه بتقليل الأكل ، بحيث بلغ في ذلك إلى الغاية ، وكان يتعجب ممن يأكل ثلاثين لقمة ، ويقول : لو أكل الناس من الضار ما آكل أنا من النافع ما اعتلوا . قال : وحكى لنا شجاع أن أبا العباس ولدت له بنت ، فلما كبرت أقرأها بالسبع ، وقرأت عليه " الصحيحين " وغير ذلك ، وكتبت [ ص: 348 ] الكثير ، وتعلمت عليه كثيرا من العلم ، ولم ينظر إليها قط ، فسألت شجاعا : أكان ذلك عن قصد ؟ فقال : كان في أول العمر اتفاقا ، لأنه كان يشتغل بالإقراء إلى المغرب ، ثم يدخل بيته وهي في مهدها ، وتمادى الحال إلى أن كبرت ، فصارت عادة ، وزوجها ، ودخلت بيتها والأمر على ذلك ، ولم ينظر إليها قط .
قلت : لا مدح في مثل هذا ، بل السنة بخلافه ، فقد أمامة بنت ابنته وهو في الصلاة . كان سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- يحمل
توفي ابن الحطيئة -رحمه الله- في المحرم سنة ستين وخمسمائة وقبره بالقرافة ظاهر يزار .