صاحب الشام ، الملك العادل ، نور الدين ، ناصر أمير المؤمنين ، تقي الملوك ، ليث الإسلام أبو القاسم ، محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر ، التركي السلطاني الملكشاهي .
مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة .
ولي جده نيابة حلب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي .
ونشأ قسيم الدولة بالعراق ، وندبه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بإشارة المسترشد لإمرة الموصل وديار بكر والبلاد الشامية ، وظهرت شهامته وهيبته وشجاعته ، ونازل دمشق ، واتسعت ممالكه ، فقتل على حصار جعبر سنة إحدى وأربعين فتملك ابنه نور الدين هذا حلب ، وابنه [ ص: 532 ] الآخر الموصل .
وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد ، قل أن ترى العيون مثله ، حاصر دمشق ، ثم تملكها ، وبقي بها عشرين سنة .
افتتح أولا حصونا كثيرة ، وفامية ، والراوندان ، وقلعة إلبيرة ، وعزاز ، وتل باشر ، ومرعش ، وعين تاب ، وهزم البرنس صاحب أنطاكية ، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج ، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة .
وبنى المدارس بحلب وحمص ودمشق وبعلبك والجوامع والمساجد ، وسلمت إليه دمشق للغلاء والخوف ، فحصنها ، ووسع أسواقها ، وأنشأ المارستان ودار الحديث والمدارس ومساجد عدة ، وأبطل المكوس من دار بطيخ وسوق الغنم ، والكيالة وضمان النهر والخمر ، ثم أخذ من العدو بانياس والمنيطرة وكسر الفرنج مرات ، ودوخهم ، وأذلهم .
وكان بطلا شجاعا ، وافر الهيبة ، حسن الرمي ، مليح الشكل ، ذا تعبد وخوف وورع ، وكان يتعرض للشهادة ، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير .
وبنى دار العدل ، وأنصف الرعية ، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين ، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية ، واستخراج العين بأحد دفنها السيل ، وفتح درب الحجاز ، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات بدمشق وغيرها . وكذا فعل إذ ملك حران وسنجار والرها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر . ووقف كتبا كثيرة مثمنة ، [ ص: 533 ] وكسر الفرنج والأرمن على حارم ، وكانوا ثلاثين ألفا ، فقل من نجا ، وعلى بانياس .
وكانت الفرنج قد استضرت على دمشق ، وجعلوا عليها قطيعة ، وأتاه أمير الجيوش شاور مستجيرا به ، فأكرمه ، وبعث معه جيشا ليرد إلى منصبه ، فانتصر ، لكنه تخابث وتلاءم ، ثم استنجد بالفرنج ، ثم جهز نور الدين -رحمه الله- جيشا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه ، فافتتح مصر ، وقهر دولتها الرافضية ، وهربت منه الفرنج ، وقتل شاور ، وصفت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين ، ثم لصلاح الدين ، فأباد العبيديين ، واستأصلهم ، وأقام الدعوة العباسية .
وكان نور الدين مليح الخط ، كثير المطالعة ، يصلي في جماعة ، ويصوم ، ويتلو ويسبح ، ويتحرى في القوت ، ويتجنب الكبر ، ويتشبه بالعلماء والأخيار ، ذكر هذا ونحوه الحافظ ، ثم قال : روى الحديث ، وأسمعه بالإجازة ، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره ، فإذا فاوضه ، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره . ابن عساكر
حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره ، وكان يواخي الصالحين ، ويزورهم ، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم ، وزوجهم بجواريه ، ومتى تشكوا من ولاته عزلهم ، وغالب ما تملكه من البلدان تسلمه بالأمان ، وكان كلما أخذ مدينة ، أسقط عن رعيته قسطا .
وقال جاهد ، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا ، وبنى أبو الفرج بن الجوزي بالموصل جامعا غرم عليه سبعين ألف [ ص: 534 ] دينار ، وترك المكوس قبل موته ، وبعث جنودا فتحوا مصر ، وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء ، وكاتبني مرارا ، وعزم على فتح بيت المقدس ، فتوفي في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة .
وقال الموفق عبد اللطيف : كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد ، وكان يأكل من عمل يده ، ينسخ تارة ، ويعمل أغلافا تارة ، ويلبس الصوف ، ويلازم السجادة والمصحف ، وكان حنيفيا يراعي مذهب الشافعي ، وكان ابنه ومالك الصالح إسماعيل أحسن أهل زمانه .
وقال ابن خلكان ضربت السكة والخطبة لنور الدين بمصر ، وكان زاهدا عابدا ، متمسكا بالشرع ، مجاهدا ، كثير البر والأوقاف ، له من المناقب ما يستغرق الوصف ، توفي في حادي عشر شوال بقلعة دمشق بالخوانيق ، وأشاروا عليه بالفصد ، فامتنع ، وكان مهيبا فما روجع ، وكان أسمر طويلا ، حسن الصورة ، ليس بوجهه شعر سوى حنكه ، وعهد بالملك إلى ابنه وهو ابن إحدى عشرة سنة .
وقال كان أسمر ، له لحية في حنكه ، وكان واسع الجبهة ، حسن الصورة ، حلو العينين ، طالعت السير فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين ابن الأثير أحسن من سيرته ، ولا أكثر تحريا منه للعدل ، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ، لقد طلبت زوجته منه ، فأعطاها ثلاثة دكاكين ، فاستقلتها ، فقال : ليس لي إلا هذا ، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن [ ص: 535 ] للمسلمين ، وكان يتهجد كثيرا ، وكان عارفا بمذهب وعمر بن عبد العزيز أبي حنيفة ، لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ، وسمعت أن حاصل أوقافه في البر في كل شهر تسعة آلاف دينار صورية .
قال له القطب النيسابوري بالله لا تخاطر بنفسك ، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف ، فقال : ومن محمود حتى يقال هذا ؟! حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو .
قلت : كان دينا تقيا ، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع ، وما للشعراء عنده نفاق ، وفيه يقول أسامة :
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا له فكل على الخيرات منكمش أيامه مثل شهر الصوم طاهرة
من المعاصي وفيها الجوع والعطش
قال وجاءه رجل طلبه إلى الشرع ، فجاء معه إلى مجلس كمال الدين الشهرزوري ، وتقدمه الحاجب يقول للقاضي : قد قال لك : اسلك معه ما تسلك مع آحاد الناس . فلما حضر سوى بينه وبين خصمه ، وتحاكما ، فلم يثبت للرجل عليه حق ، وكان ملكا ، ثم قال السلطان : فاشهدوا أني قد وهبته له .
وكان يعقد في دار العدل في الجمعة أربعة أيام ، ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين ، وإذا حضرت الحرب شد قوسين وتركاشين وكان لا يكل الجند إلى الأمراء ، بل يباشر عددهم وخيولهم ، وأسر إفرنجيا ، فافتك نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار ، فعند وصوله إلى مأمنه مات ، فبنى بالمال المارستان والمدرسة .
قال العماد في " البرق الشامي " : أكثر نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد ، وأسقط ما فيه حرام ، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر ، وكتب بذلك إلى جميع البلاد ، فكتبت له أكثر من ألف منشور .
قال : وكان له برسم نفقة خاصة في الشهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس يصرفها في كسوته ومأكوله وأجرة طباخه وخياطه كل ستين قرطاسا بدينار .
[ ص: 537 ] قال سبط الجوزي كان له عجائز ، فكان يخيط الكوافي ، ويعمل السكاكر فيبعنها له سرا ، ويفطر على ثمنها . .
قال ابن واصل : كان من أقوى الناس قلبا وبدنا ، لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه ، كأنما خلق عليه لا يتحرك ، وكان من أحسن الناس لعبا بالكرة ، يجري الفرس ويخطفها من الهواء ، ويرميها بيده إلى آخر الميدان ، ويمسك الجوكان بكمه تهاونا بأمره ، وكان يقول : طالما تعرضت للشهادة ، فلم أدركها .
قلت : قد أدركها على فراشه ، وعلى ألسنة الناس : ، والذي أسقط من المكوس في بلاده ذكرته في " تاريخنا الكبير " مفصلا ، ومبلغه في العام خمسمائة ألف دينار ، وستة وثمانون ألف دينار ، وأربعة وسبعون دينارا من نقد نور الدين الشهيد الشام ، منها على الرحبة ستة عشر ألف دينار ، وعلى دمشق خمسون ألف وسبعمائة ونيف ، وعلى الموصل ثمانية وثلاثون ألف دينار ، وعلى جعبر سبعة آلاف دينار ونيف ، وفي الكتاب : فأيقنوا أن ذلك إنعام مستمر على الدهور ، باق إلى يوم النشور ، ف كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه وكتب في رجب سنة سبع وستين وخمسمائة .
[ ص: 538 ] قال سبط الجوزي حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط ، ما زال نور الدين عشرين يوما يصوم ، ولا يفطر إلا على الماء ، فضعف وكاد يتلف ، وكان مهيبا ، ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك ، فقال إمامه يحيى : إنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم يقول : يا يحيى ، بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط . فقلت : يا رسول الله ، ربما لا يصدقني . فقال : قل له : بعلامة يوم حارم . وانتبه يحيى ، فلما صلى نور الدين الصبح ، وشرع يدعو ، هابه يحيى ، فقال له : يا يحيى ، تحدثني أو أحدثك ؟ فارتعد يحيى ، وخرس ، فقال : أنا أحدثك ، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الليلة ، وقال لك كذا وكذا . قال : نعم ، فبالله يا مولانا ، ما معنى قوله : بعلامة يوم حارم ؟ فقال : لما التقينا العدو ، خفت على الإسلام ، فانفردت ، ونزلت ، ومرغت وجهي على التراب ، وقلت : يا سيدي ، من محمود في البين ، الدين دينك ، والجند جندك ، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك . قال : فنصرنا الله عليهم .
وحكى لي تاج الدين قال : ما تبسم نور الدين إلا نادرا ، حكى لي جماعة من المحدثين أنهم قرءوا عليه حديث التبسم ، فقالوا له : تبسم ، قال : لا أتبسم من غير عجب .
قلت : الخبر ليس بصحيح ، ولكن التبسم مستحب ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : وقال تبسمك في وجه أخيك صدقة : جرير بن عبد الله . ما حجبني [ ص: 539 ] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم
وقبر نور الدين بتربته عند باب الخواصين يزار .
وتملك بعده ابنه الملك الصالح أشهرا ، وسلم دمشق إلى السلطان صلاح الدين ، وتحول إلى حلب ، فدام صاحبها تسع سنين ، ومات بالقولنج وله عشرون سنة ، وكان شابا دينا -رحمه الله .