ابن عبد المؤمن
السلطان الكبير أبو يعقوب يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن [ ص: 99 ] علي ، صاحب المغرب .
تملك بعد أخيه المخلوع محمد لطيشه ، وشربه الخمر ، فخلع بعد شهر ونصف ، وبويع أبو يعقوب ، وكان شابا مليحا ، أبيض بحمرة ، مستدير الوجه ، أفوه ، أعين ، تام القامة ، حلو الكلام فصيحا ، حلو المفاكهة ، عارفا باللغة والأخبار والفقه ، متفننا ، عالي الهمة ، سخيا ، جوادا ، مهيبا ، شجاعا ، خليقا للملك .
قال عبد الواحد بن علي التميمي صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين ، أظنه . قال : وكان سديد الملوكية ، بعيد الهمة ، جوادا ، استغنى الناس في أيامه . ثم إنه نظر في الطب والفلسفة ، وحفظ أكثر كتاب " الملكي " ، وجمع كتب الفلاسفة ، وتطلبها من الأقطار ، وكان يصحبه البخاري أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف ، فكان لا يصبر عنه وسمعت أبا بكر بن يحيى الفقيه ، سمعت الحكم أبا الوليد بن رشد الحفيد يقول : لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب ، وجدته هو وابن طفيل فقط ، فأخذ ابن طفيل يطريني ، فكان أول ما فاتحني أن قال : ما رأيهم في السماء ؟ أقديمة أم حادثة ؟ فخفت ، وتعللت ، وأنكرت الفلسفة ، ففهم ، فالتفت إلى ابن طفيل ، وذكر قول أرسطو فيها ، وأورد حجج أهل الإسلام ، [ ص: 100 ] فرأيت منه غزارة حفظ ، لم أكن أظنها في عالم ، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت ، ثم أمر لي بخلعة ومال ومركوب .
وزر له أخوه عمر أياما ، ثم رفع منزلته عن الوزارة ، وولى إدريس بن جامع ، إلى أن استأصله سنة 577 ، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تسلطن ، وكان له من الولد ستة عشر ابنا .
وفي وسط أيامه خرج عليه سبع بن حيان ومززدغ في غمارة فحاربهما ، وأسرهما ، ودخل الأندلس في سنة سبع وستين للجهاد ، ويضمر الاستيلاء على باقي الجزيرة ، فجهز الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش ، فالتقوا بقرب مرسية ، فانكسر محمد ، ثم ضايقه الموحدون بمرسية مدة ، فمات ، وأخذ أبو يعقوب بلاده ، ثم سار ، فنازل مدينة وبذى فحاصرها أشهرا ، وكادوا أن يسلموها من العطش ، ثم استسقوا -لعنهم الله- فسقوا ، وامتلأت صهاريجهم ، فرحل ، وهادن الفنش وأقام بإشبيلية سنتين ونصفا ودانت له الأندلس ، ثم رجع إلى السوس [ ص: 101 ] سنة 571 لتسكن فتن وقعت بين البربر ، ثم سار في سنة 75 حتى أتى مدينة قفصة ، فحاصرها ، وقبض على ابن الرند . وهادن صاحب صقلية ، على أن يحمل كل سنة ضريبة على الفرنج فبعث إلى أبي يعقوب تحفا ، منها قطعة ياقوت معدومة بقدر استدارة حافر فرس ، فكللوا المصحف العثماني بها .
قال الحافظ أبو بكر بن الجد : كنا عنده ، فسألنا : كم بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مسحورا ؟ فشكينا . فقال : بقي شهرا كاملا ، صح ذلك . وكان فقيها يتكلم في المذاهب ، ويقول : قول فلان صواب ، ودليله من الكتاب والسنة كذا وكذا .
قال عبد الواحد لما تجهز لغزو الروم ، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى على الجند ، وكان هو يملي بنفسه ، وكبار [ ص: 102 ] الموحدين يكتبون في ألواحهم . وكان يسهل عليه بذل الأموال سعة الخراج ، كان يأتيه من إفريقية في العام مائة وخمسون وقر بغل . واستنفر في سنة تسع وسبعين أهل السهل والجبل والعرب ، فعبر إلى الأندلس ، وقصد شنترين بيد ابن الريق لعنه الله ، فحاصرها مدة ، وجاء البرد ، فقال : غدا نترحل ، فكان أول من قوض مخيمه علي ابن القاضي الخطيب ، فلما رآه الناس ، قوضوا أخبيتهم ، فكثر ذلك ، وعبر ليلتئذ العسكر النهر ، وتقدموا خوف الازدحام ، ولم يدر بذلك أبو يعقوب ، وعرفت الروم ، فانتهزوا الفرصة ، وبرزوا ، فحملوا على الناس ، فكشفوهم ، ووصلوا إلى مخيم السلطان ، فقتل على بابه خلق من الأبطال ، وخلص إلى السلطان ، فطعن تحت سرته طعنة مات بعد أيام منها ، وتدارك الناس ، فهزموا الروم إلى البلد ، وهرب الخطيب ، ودخل إلى صاحب شنترين ، فأكرمه ، واحترمه ، ثم أخذ يكاتب المسلمين ، ويدل على عورة العدو ، فأحرقوه ، ولم يسيروا بأبي يعقوب إلا ليلتين ، وتوفي ، وصلي عليه ، وصبر في تابوت ، وبعث إلى تينمل فدفن مع أبيه وابن تومرت .
مات في سابع رجب سنة ثمانين وخمسمائة وبايعوا ابنه يعقوب .
وفيها مات أحمد بن المبارك بن درك الضرير ، وصدر الدين عبد الرحيم ابن شيخ الشيوخ إسماعيل بن أبي سعد ، وأبو الفرج محمد بن أحمد ابن الشيخ أبي علي بن نبهان الأديب ، وشيخ النحو أبو بكر محمد بن [ ص: 103 ] أحمد الخدب ، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر القرشي المعدل ، ومحمود بن حمكا الأصبهاني .