ما ابتلي الحافظ به :
قال الضياء : سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار ، سمعت الحافظ يقول : سألت الله أن يرزقني مثل حال فقد رزقني صلاته ، قال : ثم ابتلي بعد ذلك وأوذي . الإمام أحمد
سمعت الإمام عبد الله بن أبي الحسن الجبائي بأصبهان يقول : أبو نعيم قد أخذ على ابن منده أشياء في كتاب " الصحابة " فكان الحافظ أبو موسى يشتهي أن يأخذ على أبي نعيم في كتابه الذي في الصحابة فما كان يجسر ، فلما قدم الحافظ عبد الغني أشار إليه بذلك ، قال : فأخذ على أبي نعيم نحوا من مائتين وتسعين موضعا ، فلما سمع بذلك الصدر الخجندي [ ص: 459 ] طلب عبد الغني وأراد هلاكه ، فاختفى .
وسمعت محمود بن سلامة يقول : ما أخرجنا الحافظ من أصبهان إلا في إزار ، وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة ، كانوا يتعصبون لأبي نعيم ، وكانوا رؤساء البلد .
وسمعت الحافظ يقول : كنا بالموصل نسمع " الضعفاء " ، فأخذني أهل للعقيلي الموصل وحبسوني ، وأرادوا قتلي من أجل ذكر شيء فيه فجاءني رجل طويل ومعه سيف ، فقلت يقتلني وأستريح ، قال : فلم يصنع شيئا ، ثم أطلقوني ، وكان يسمع معه ابن البرني الواعظ فقلع الكراس الذي فيه ذلك الشيء فأرسلوا ، وفتشوا الكتاب ، فلم يجدوا شيئا ، فهذا سبب خلاصه .
وقال : كان الحافظ يقرأ الحديث بدمشق ، ويجتمع عليه الخلق ، فوقع الحسد ، فشرعوا عملوا لهم وقتا لقراءة الحديث ، وجمعوا الناس ، فكان هذا ينام وهذا بلا قلب فما اشتفوا ، فأمروا الناصح ابن الحنبلي [ ص: 460 ] بأن يعظ تحت النسر يوم الجمعة وقت جلوس الحافظ ، فأول ذلك أن الناصح والحافظ أرادا أن يختلفا الوقت ، فاتفقا أن الناصح يجلس بعد الصلاة ، وأن يجلس الحافظ العصر ، فدسوا إلى الناصح رجلا ناقص العقل من بني عساكر فقال للناصح في المجلس ما معناه : إنك تقول الكذب على المنبر ، فضرب وهرب فتمت مكيدتهم ، ومشوا إلى الوالي وقالوا : هؤلاء الحنابلة قصدهم الفتنة ، واعتقادهم يخالف اعتقادنا ، ونحو هذا .
ثم جمعوا كبراءهم ومضوا إلى القلعة إلى الوالي ، وقالوا : نشتهي أن تحضر عبد الغني ، فانحدر إلى المدينة خالي الموفق ، وأخي الشمس البخاري ، وجماعة ، وقالوا : نحن نناظرهم ، وقالوا للحافظ : لا تجئ فإنك حد نحن نكفيك ، فاتفق أنهم أخذوا الحافظ وحده ، ولم يدر أصحابنا فناظروه ، واحتد وكانوا قد كتبوا شيئا من الاعتقاد ، وكتبوا خطوطهم فيه وقالوا له : اكتب خطك فأبى ، فقالوا للوالي : الفقهاء كلهم قد اتفقوا على شيء وهو يخالفهم ، واستأذنوه في رفع منبره فبعث الأسرى فرفعوا ما في جامع دمشق من منبر وخزانة ودرابزين وقالوا : نريد أن لا تجعل في الجامع إلا صلاة الشافعية وكسروا منبر الحافظ ، ومنعونا من الصلاة ففاتتنا صلاة الظهر ، [ ص: 461 ] ثم إن الناصح جمع البنوية وغيرهم وقالوا : إن لم يخلونا نصلي باختيارهم صلينا بغير اختيارهم .
فبلغ ذلك القاضي ، وكان صاحب الفتنة ، فأذن لهم ، وحمى الحنفية مقصورتهم بأجناد ، ثم إن الحافظ ضاق صدره ومضى إلى بعلبك ، فأقام بها مدة ، فقال له أهلها : إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك ، فقال : لا ، وتوجه إلى مصر فبقي بنابلس مدة يقرأ الحديث ، وكنت أنا بمصر ، فجاء شاب من دمشق بفتاو إلى صاحب مصر الملك العزيز ومعه كتب أن الحنابلة يقولون كذا وكذا مما يشنعون به عليهم ، فقال-وكان يتصيد- : إذا رجعنا أخرجنا من بلادنا من يقول بهذه المقالة ، فاتفق أنه عدا به الفرس ، فشب به فسقط فخسف صدره .
كذلك حدثني يوسف بن الطفيل شيخنا وهو الذي غسله ، فأقيم ابنه صبي ، فجاء الأفضل من صرخد ، وأخذ مصر وعسكر وكر إلى دمشق ، فلقي الحافظ عبد الغني في الطريق فأكرمه إكراما كثيرا ، ونفذ يوصي به بمصر فتلقي الحافظ بالإكرام ، وأقام بها يسمع الحديث بمواضع ، وكان بها كثير من المخالفين ، وحصر الأفضل دمشق حصرا شديدا ، ثم رجع إلى مصر ، فسار العادل عمه خلفه فتملك مصر ، وأقام ، وكثر المخالفون على الحافظ ، فاستدعي ، وأكرمه العادل ، ثم سافر العادل إلى دمشق ، وبقي الحافظ بمصر ، وهم ينالون منه ، حتى عزم الملك الكامل على إخراجه .
واعتقل في دار أسبوعا ، فسمعت أبا موسى يقول : سمعت أبي يقول : ما وجدت راحة في مصر مثل تلك الليالي . قال : وكانت امرأة في دار إلى جانب تلك الدار ، فسمعتها تبكي ، وتقول : " بالسر الذي أودعته قلب موسى حتى قوي [ ص: 462 ] على حمل كلامك " قال : فدعوت به فخلصت تلك الليلة .
سمعت أحمد بن محمد بن عبد الغني ، حدثني الشجاع بن أبي زكري الأمير ، قال : قال لي الملك الكامل يوما : هاهنا فقيه قالوا إنه كافر ، قلت : لا أعرفه ، قال : بلى ، هو محدث ، قلت : لعله الحافظ عبد الغني ؟ ، قال : هذا هو ، فقلت : أيها الملك ، العلماء أحدهم يطلب الآخرة ، وآخر يطلب الدنيا ، وأنت هنا باب الدنيا ، فهذا الرجل جاء إليك أو تشفع يطلب شيئا ؟ قال : لا . فقلت : والله هؤلاء يحسدونه ، فهل في هذه البلاد أرفع منك ؟ قال : لا ، فقلت : هذا الرجل أرفع العلماء كما أنت أرفع الناس ، فقال : جزاك الله خيرا كما عرفتني .
ثم بعثت رقعة إليه أوصيه به ، فطلبني فجئت ، وإذا عنده شيخ الشيوخ ابن حمويه ، وعز الدين الزنجاري فقال لي السلطان : نحن في أمر الحافظ ، فقال : أيها الملك القوم يحسدونه ، وهذا الشيخ بيننا -يعني شيخ الشيوخ- وحلفته هل سمعت من الحافظ كلاما يخرج عن الإسلام ؟ فقال : لا والله وما سمعت عنه إلا كل جميل ، وما رأيته . وتكلم ابن الزنجاري فمدح الحافظ كثيرا وتلامذته ، وقال : أنا أعرفهم ، ما رأيت مثلهم ، فقلت : وأنا أقول شيئا آخر : لا يصل إليه مكروه حتى يقتل من الأكراد ثلاثة آلاف ، قال : فقال : لا يؤذى الحافظ ، فقلت : اكتب خطك بذلك ، فكتب . [ ص: 463 ]
وسمعت بعض أصحابنا يقول : إن الحافظ أمر أن يكتب اعتقاده ، فكتب : أقول كذا ; لقول الله كذا ، وأقول كذا ; لقول الله كذا ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا ، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها ، فلما رآها الكامل قال : أيش أقول في هذا ، يقول بقول الله وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم !؟
قلت : وذكر أبو المظفر الواعظ في " مرآة الزمان " قال : كان الحافظ عبد الغني يقرأ الحديث بعد الجمعة ، قال : فاجتمع القاضي محيي الدين ، والخطيب ضياء الدين ، وجماعة ، فصعدوا إلى القلعة ، وقالوا لواليها : هذا قد أضل الناس ، ويقول بالتشبيه ، فعقدوا له مجلسا ، فناظرهم ، فأخذوا عليه مواضع منها : قوله : " لا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول " ، ومنها : " كان الله ولا مكان ، وليس هو اليوم على ما كان " ، ومنها مسألة الحرف والصوت ، فقالوا : إذا لم يكن على ما كان فقد أثبت له المكان ، وإذا لم تنزهه عن حقيقة النزول فقد جوزت عليه الانتقال ، وأما الحرف والصوت فلم يصح عن إمامك وإنما قال إنه كلام الله ، يعني غير مخلوق ، وارتفعت الأصوات ، فقال والي القلعة الصارم برغش : كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق ؟ قال : نعم . فأمر بكسر منبره .
قال : وخرج الحافظ إلى بعلبك ، ثم سافر إلى مصر إلى أن قال : فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه ، وقالوا : يفسد عقائد الناس ، ويذكر التجسيم ، فكتب الوزير بنفيه إلى المغرب ، فمات الحافظ قبل وصول الكتاب . [ ص: 464 ]
قال : وكان يصلي كل يوم وليلة ثلاث مائة ركعة ، ويقوم الليل ، ويحمل ما أمكنه إلى بيوت الأرامل واليتامى سرا ، وضعف بصره من كثرة البكاء والمطالعة ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث .
وقال أيضا : وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ما ظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره ، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب .
قلت : قد بلوت على أبي المظفر المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد ، وكان يترفض ، رأيت له مصنفا في ذلك ، فيه دواه ، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حيا ، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين ، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر ، والعلامة شمس الدين البخاري ، وسائر الحنابلة ، وعدة من أهل الأثر .
وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه ، نعم ، ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه ، ولو كف عن تلك العبارات ، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم ، فهو الأولى ، فما في توسيع العبارات الموهمة خير ، وأسوأ شيء قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين ، وأنه على الحق ، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء ، رحم الله الجميع وغفر لهم ، فما قصدهم إلا تعظيم الباري -عز وجل- من الطرفين ، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة ، وهذا هو مذهب السلف -رضي الله عنهم . [ ص: 465 ]
وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق ، ومحاسنه كثيرة ، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء ، ونبرأ من كل مجسم ومعطل .