الناصر لدين الله
الخليفة أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن [ ص: 193 ] بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي الهاشمي العباسي البغدادي
مولده في عاشر رجب سنة ثلات وخمسين وخمسمائة .
وبويع في أول ذي القعدة سنة خمس وسبعين ، وكان أبيض ، معتدل القامة ، تركي الوجه ، مليح العينين ، أنور الجبهة ، أقنى الأنف ، خفيف العارضين ، أشقر رقيق المحاسن ، نقش خاتمه : " رجائي من الله عفوه " .
وأجاز له أبو الحسين اليوسفي ، وعلي بن عساكر البطائحي ، وشهدة الكاتبة ، وطائفة .
وقد أجاز لجماعة من الأئمة والكبراء فكانوا يحدثون عنه في أيامه ، ويتنافسون في ذلك ، ويتفاخرون بالوهم .
ولم يل الخلافة أحد أطول دولة منه ، لكن صاحب مصر المستنصر العبيدي ولي ستين سنة ، وكذا ولي الأندلس الناصر المرواني خمسين سنة . كان أبوه المستضيء قد تخوف منه فحبسه ، ومال إلى أخيه أبي [ ص: 194 ] منصور ، وكان ابن العطار وكبراء الدولة ميلهم إلى أبي منصور ، وكانت حظية المستضيء بنفشا والمجد بن الصاحب وطائفة مع أبي العباس ، فلما بويع قبض على ابن العطار ، وأهلك فسحب في الشوارع ميتا ، وطغى ابن الصاحب إلى أن قتل .
قال الموفق عبد اللطيف : كان الناصر شابا مرحا عنده ميعة الشباب ، يشق الدروب والأسواق أكثر الليل ، والناس يتهيبون لقياه ، وظهر الرفض بسبب ابن الصاحب ثم انطفأ بهلاكه وظهر التسنن ثم زال ، وظهرت الفتوة والبندق والحمام الهادي ، وتفنن الناس في ذلك ، ودخل فيه الأجلاء ثم الملوك ، فألبس العادل وأولاده سراويل الفتوة ، وشهاب الدين الغوري صاحب غزنة والهند والأتابك سعد صاحب شيراز . وتخوف الديوان من السلطان طغريل ، وجرت معه حروب وخطوب ، ثم استدعوا خوارزم شاه تكش لحربه ، فالتقاه على الري ، واحتز رأسه ، ونفذه إلى بغداد ، ثم تقدم تكش نحو بغداد يطلب رسوم السلطنة ، فتحركت عليه أمة الخطا ، فرد إلى خوارزم ومات .
وقد خطب الناصر بولاية العهد لولده الأكبر أبي نصر ، ثم ضيق عليه لما استشعر منه وعين أخاه ، وأخذ خط باعتراف أبي نصر بالعجز ، أفسد ما بينهما النصير بن مهدي الوزير ، وأفسد قلوب الرعية والجند على الناصر وبغضه إلى الملوك ، وزاد الفساد ، ثم قبض على الوزير ، وتمكن بخراسان وتجبر واستعبد الملوك وأباد الأمم من خوارزم شاه محمد بن تكش الترك والخطا ، وظلم وعسف وقطع خطبة الناصر من بلاده ، ونال منه ، [ ص: 195 ] وقصد بغداد ، ووصل بوادره إلى حلوان فأهلكهم ببلخ ، دام عشرين يوما واتعظوا بذلك ، وجمع الناصر الجيش ، وأنفق الأموال ، واستعد ، فجاءت الأخبار أن الترك قد حشدوا ، وطمعوا في البلاد ، فكر إليهم وقصدهم فقصدوه وكثروه إلى أن مزقوه وبلبلوا لبه وشتتوا شمله ، وملكوا الأقطار ، وصار أين توجه وجد سيوفهم متحكمة فيه ، وتقاذفت به البلاد ، فشرق وغرب ، وأنجد وأسهل ، وأصحر وأجبل ، والرعب قد زلزل لبه ، فعند ذلك قضى نحبه .
قلت : جرى له ولابنه منكوبرتي عجائب وسير ، وذلك عندي في مجلد ألفه النسوي كاتب الإنشاء .
قال الموفق : وكان الشيخ شهاب الدين السهروردي لما ذهب في الرسالة خاطب خوارزم شاه محمدا بكل قول ، ولاطفه ، ولا يزداد إلا عتوا ولم يزل الناصر في عز وقمع الأعداء ، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه ، ولا مخالف إلا دمغه ، ولا عدو إلا خذل ، كان شديد الاهتمام بالملك ، لا يخفى عليه كبير شيء من أمور رعيته ، أصحاب أخباره في البلاد ، حتى كأنه شاهد جميع البلاد دفعة واحدة ، كانت له حيل لطيفة ، وخدع لا يفطن إليها أحد ، يوقع صداقة بين ملوك متعادين ، ويوقع عداوة بين ملوك متوادين ولا يفطنون .
[ ص: 196 ] إلى أن قال : ولما دخل رسول صاحب مازندان بغداد كانت تأتيه كل صباح ورقة بما فعل في الليل فصار يبالغ في التكتم ، واختلى ليلة بامرأة فصبحته ورقة بذلك ، فتحير ، وخرج لا يرتاب أن الخليفة يعلم الغيب .
قلت : أظنه كان مخدوما من الجن .
قال : وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخفية وكتاب مختوم ، فقيل : ارجع فقد عرفنا ما جئت به ! فرجع وهو يظن أن الناصر ولي لله . وجاء مرة رسول لخوارزم شاه فحبس أشهرا ثم أعطي عشرة آلاف دينار فذهب وصار مناصحا للخليفة . وبعث قاصدا يكشف له عسكر خوارزم شاه ، فشوه وجهه وتجانن ، وأنه ضاع حماره ، فسخروا منه ، وضحكوا ، وتردد بينهم أربعين يوما ثم رد إلى بغداد وقال : القوم مائة وتسعون ألفا يزيدون ألفا أو ينقصون . وكان الناصر إذا أطعم أشبع ، وإذا ضرب أوجع ; وصل رجل ببغاء تقرأ قل هو الله أحد هدية للناصر ، فأصبحت ميتة وحزن ، فأتاه فراش يطلب الببغاء فبكى وقال : ماتت ، قال : عرفنا فهاتها ميتة ، وقال : كم كان أملك ؟ قال : خمسمائة دينار ، قال : خذها فقد بعثها إليك أمير المؤمنين ، فإنه عالم بأمرك منذ خرجت من الهند ! وكان صدرجهان قد قدم بغداد في جمع من الفقهاء ، فقال واحد منهم عن فرسه : لا يقدر الخليفة أن يأخذها مني ; قال ذلك في سمرقند ، وعرف الناصر فأمر بعض الزبالين أن يتعرض له ويضربه ويأخذ الفرس منه ببغداد ، ويهرب بها في الزحمة ففعل ، فجاء الفقيه إلى الأبواب يستغيث ولا يغاث ، فلما رجعوا من الحج خلع على صدرجهان [ ص: 197 ] وأصحابه سوى ذلك الفقيه ، ثم بعد خلع عليه ، وقدمت له فرسه وعليها سرج مذهب ، وقيل له : لم يأخذ فرسك الخليفة ، إنما أخذها زبال ، فغشي عليه .
قلت : ما تحت هذا الفعل طائل ، فكل مخدوم وكاهن يتأتى له أضعاف ذلك .