قال الموفق عبد اللطيف : وفي وسط ولايته اشتغل برواية الحديث ، واستناب نوابا يروون عنه ، وأجرى عليهم جرايات ، وكتب للملوك والعلماء إجازات ، وجمع كتابا سبعين حديثا وصل على يد السهروردي إلى حلب فسمعه الظاهر ، وجماهير الدولة وشرخته . وسبب ميله إلى الرواية أن قاضي القضاة العباسي نسب إليه تزوير فأحضروه وثلاثة من الشهود ، فعزر القاضي بتخريق عمامته ، وطيف بالثلاثة على جمال بالذرة ، فمات أحدهم ليلتئذ والآخر لبس لبس الفساق ، والثالث اختفى وهو المحدث البندنيجي رفيقنا ، واحتاج وباع في كتبه فوجد في الجزاز إجازة للناصر من مشايخ بغداد ، فرفعها إليه ، فخلع عليه وأعطي مائة دينار ، ثم جعل وكيلا عن الناصر في الإجازة والتسميع .
قلت : ممن يروي عن الناصر بالإجازة عبد الوهاب بن سكينة ، وابن الأخضر ، وقاضي القضاة ابن الدامغاني ، وولي العهد ، ، وبنوه ، وشيخانا : والملك العادل محمود الزنجاتي والمقداد القيسي .
[ ص: 198 ] قال ابن النجار : شرفني الناصر بالإجازة ، ورويت عنه بالحرمين ودمشق والقدس وحلب وبغداد وأصبهان ونيسابور ومرو وهمذان .
قال الموفق : وأقام مدة يراسل جلال الدين الصباحي صاحب الألموت يراوده أن يعيد شعار الإسلام من الصلاة والصيام مما تركوه في زمان سنان ، ويقول لهم : إنكم إذا فعلتم ذلك كنا يدا واحدة . واتفق أن رسول خوارزم شاه قدم فزور على لسانه كتب في حق الملاحدة تشتمل على الوعيد ، وعزم الإيقاع بهم ، وأنه يخرب قلاعهم ويطلب من الناصر المعونة ، وأحضر رجل منهم كان قاطنا ببغداد ووقف على الكتب ، وأخرج بها وبكتب من الناصر على وجه النصح نصف الليل على البريد ، فقدم الألموت فأرهبهم فتظاهروا بالإسلام وإقامة الشعار وبعثوا رسولا معه مائتا شاب ودنانير كبارا عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وطاف المائتان بها يعلنون بالشهادتين .
وكان الناصر قد ملأ القلوب هيبة وخيفة ، حتى كان يرهبه أهل الهند ، وأهل مصر ، فأحيى هيبة الخلافة . لقد كنت بمصر وبالشام في خلوات الملوك والأكابر إذا جرى ذكره خفضوا أصواتهم إجلالا له . ورد بغداد تاجر معه متاع دمياط المذهب ، فسألوه عنه فأخفاه فأعطي علامات فيه من عدده وألوانه وأصنافه ، فازداد إنكاره ، فقيل له : من العلامات أنك نقمت على مملوكك فلان التركي فأخذته إلى سيف بحر دمياط وقتلته ، ودفنته هناك خلوة .