محمد بن يوسف بن هود
الأندلسي السلطان أبو عبد الله .
قرأت بخط أبي الوليد بن الحاج ، قال : لما قضى الله تعالى بهلاك [ ص: 21 ] الموحدين بالأندلس ، وذلك أنهم ابتلوا بالصلاح في الظاهر ، والأعمال الفاسدة في الباطن ، فأبغضهم الناس بغضا شديدا ، وتربصوا بهم الدوائر ، إلى أن نجم ابن هود في سنة خمس وعشرين وستمائة بشرق الأندلس فقام الناس كلهم بدعوته ، وتعصبوا معه ، وقاتلوا الموحدين في البلدان ، وحصروهم في القلاع ، وقهروهم ، وقتلوا فيهم ، ونصر على الموحدين ، وخلصت الأندلس كلها له ، وفرح الناس به فرحا عظيما ، فلما تمهد أمره أنشأ غزوة للفرنج على مدينة ماردة بغرب الأندلس ، واستدعى الناس من الأقطار ، فانتدب الخلق له بجد واجتهاد وخلوص نية المرتزقة والمطوعة .
واجتمع عليه أهل الأندلس كلهم ، ولم يبق إلا من حبسه العذر ، فدخل بهم إلى الإفرنج ، فلما تراءى الجمعان وقعت الهزيمة على المسلمين أقبح هزيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وكانت تلك الأرض مديسة بماء وعزق تسمرت فيها الخيل إلى آباطها ، وهلك الخلق ، وأتبعهم الفرنج بالقتل والأسر ولم يبق إلا القليل ، ورجع ابن هود في أسوأ حال إلى إشبلية ، فنعوذ به من سوء المنقلب ، فلم تبق بقعة من الأندلس إلا وفيها البكاء والصياح العظيم والحزن الطويل ، فكانت إحدى هلكات الأندلس ، فمقت الناس ابن هود ، وصاروا يسمونه " المحروم " .
ولم يقدر أن يفعل مع الفرنج كبير فعل قط إلا مرة أخذ لهم غنما كثيرة جدا ، ثم قام عليه شعيب بن هلالة بلبلة ، فصالح ابن هود الأدفوش على محاصرة لبلة ومعاونته على أن يعطيه قرطبة ، واتفقا على ذلك ، وقال له : لا يسوغ أن يدخلها الفرنج على البديهة ، وإنما تهمل أمرها ، وتخليها من حرس ، ووجه أنت الفرنج يتعلقون بأسوارها بالليل ويغدرون بها ، ففعلوا كذلك . ووجه ابن هود إلى واليه بقرطبة فأعلمه بذلك ، وأمره بضياعها من حيز الشرقية فجاء الفرنج ، فوجدوه خاليا ، فجعلوا السلالم واستووا على السور فلا حول ولا قوة إلا بالله .
[ ص: 22 ] وكانت قرطبة مدينتين : إحداهما الشرقية والأخرى المدينة العظمى ، فقامت الصيحة والناس في صلاة الفجر ، فركب الجند وقالوا للوالي : اخرج بنا للملتقى ، فقال : اصبروا حتى يضحى النهار ، فلما أضحى ركب وخرج معهم ، فلما أشرف على الفرنج قال : ارجعوا حتى ألبس سلاحي ! فرجع بهم وهم يصدقونه ، وذا أمر قد دبر بليل ، فدخل الفرنج على أثرهم ، وانتشروا ، وهرب الناس إلى البلد ، وقتل خلق من الشيوخ والولدان والنسوان ، ونهب للناس ما لا يحصى .
وانحصرت المدينة العظمى بالخلق فحاصرهم الفرنج شهورا ، وقاتلوهم أشد القتال ، وعدم أهلها الأقوات ، ومات خلق كثير جوعا ، ثم اتفق رأيهم مع أدفونش لعنه الله على أن يسلموها ويخرجوا بأمتعتهم كلها ، ففعل ، ووفى لهم ووصلهم إلى مأمنهم في سنة أربع وثلاثين وستمائة .
قلت : ولم يمتع بعدها ابن هود بل أخذه الله في سنة خمس فكانت دولته تسعة أعوام وتسعة أشهر وتسعة أيام ، وهلك بالمرية جهز عليه من غمه وهو نائم ، وحمل إلى مرسية فدفن هناك ، ولم يمت حتى قوي أمر الموحدين وقام بعده محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر ، ودام الملك في ذريته .
وقدم علينا دمشق ابن أخيه الزاهد الكبير بدر الدين بن هود ، ورأيته ، وكان فلسفي التصوف يشرب الخمر أخذه الأعوان مخمورا .