وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمما تكثيرهم والامتنان عليهم ، كان [ ص: 160 ] قوله فخلف من بعدهم خلف تفريعا على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم ، فيكون المراد بالخلف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها ، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة وإلى هذا المعنى في الخلف نحا المفسرون .
والخلف - بسكون اللام - من يأتي بعد غيره سابقه في مكان أو عمل أو نسل ، يبينه المقام أو القرينة ، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء ، قاله خلافا لكثير من أهل اللغة إذ قالوا : الأكثر استعمال الخلف - بسكون اللام - فيمن يخلف في الشر ، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير ، وقال النضر بن شميل ، البصريون : يجوز التحريك والإسكان في الرديء وأما الحسن فبالتحريك فقط .
وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي ( خالف ) ، والخلف مأخوذ من الخلف ضد القدام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم ، ولا حد لآخر الخلف ، بل يكون تحديده بالقرائن ، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن ، بل قد يكون الخلف ممتدا . قال - تعالى - بعد ذكر الأنبياء فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم ، فإنه ذكر من أسلافهم إدريس وهو جد نوح .
و ( ورثوا ) مجاز في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله - تعالى - ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها في هذه السورة ، وقوله فيها أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها فهو بمعنى الخلفية ، والمعنى : فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب ، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف .
وجملة يأخذون عرض هذا الأدنى حال من ضمير ورثوا ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل ، وذلك أشد مذمة كما قال - تعالى - وأضله الله على علم .
ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي : يلابسونه ، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي .
[ ص: 161 ] - بفتح العين وفتح الراء - الأمر الذي يزول ولا يدوم ، ويراد به المال ، ويراد به أيضا ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع . والعرض
والأدنى الأقرب من المكان ، والمراد به هنا الدنيا ، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم :
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضـاءهـا
وقد قيل : أخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب ، وبذلك فسر سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، فيشمل كل ذنب ، ويكون الأخذ مستعملا في المجاز وهو الملابسة ، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك ، فهو من عموم المجاز ، وقيل عرض الدنيا هو الرشا وبه فسر والطبري ، ومعظم المفسرين ، فيكون الأخذ مستعملا في حقيقته وهو التناول ، وقد يترجح هذا التفسير بقوله وإن يأتهم عرض كما سيأتي . السدي ،
والقول في ويقولون هو الكلام اللساني ، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات ؛ لأن ما بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي ، ويجوز أن يكون الكلام النفساني ؛ لأنه فرع عنه ، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي ، فهو بمنزلة قوله - تعالى - ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول وذلك من غرورهم في الدين .
وبناء فعل ( يغفر ) على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف ، وهو الله ، إذ لا يصدر هذا الفعل إلا عنه ، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم ، أو الذي تلبسوا به حين القول ، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق ، والتقدير : سيغفر لنا ذلك ، أو ذنوبنا ، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة كما تقدم في سورة البقرة ، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة وهو التوبة كما يعلم من السياق ، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها .
وقوله ( لنا ) لا يصلح للنيابة عن الفاعل لأنه ليس في معنى المفعول ، إذ فعل [ ص: 162 ] المغفرة يتعدى لمفعول واحد ، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله يقال غفر الله لك ذنبك ، كما قال - تعالى - ألم نشرح لك صدرك فلو بني شرح للمجهول لما صح أن يجعل ( لك ) نائبا عن الفاعل .
وجملة ويقولون سيغفر لنا معطوفة على جملة يأخذون لأن كلا الخبرين يوجب الذم ، واجتماعهما أشد في ذلك .
وجملة وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه معطوفة على التي قبلها ، واستعير إتيان العرض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المال ، وقد يراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة ، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية ، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني .
والمعنى : أنهم يعصون ، ويزعمون أن سيئاتهم مغفورة ، ولا يقلعون عن المعاصي .
وجملة ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب جواب عن قولهم سيغفر لنا إبطالا لمضمونه ؛ لأن قولهم سيغفر لنا يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك . والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم . والمقصود من هذه الجملة إعلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليحجهم بها ، فهم المقصود بالكلام ، كما تشهد به قراءة أفلا تعقلون بتاء الخطاب .
والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ ، وهذا التقرير لا يسعهم إلا الاعتراف به لأنه صريح كتابهم ، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس " لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب " ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم ، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية ، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن . فقولهم سيغفر لنا تقول على الله بما لم يقله .
والميثاق : العهد ، وهو وصية موسى التي بلغها إليهم عن الله - تعالى - في مواضع كثيرة ، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى " في " أو على معنى اللام أي الميثاق [ ص: 163 ] المعروف به ، والكتاب توراة موسى ، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل أن الناصبة ، والمعنى : بأن لا يقولوا ، أي بانتفاء قولهم على الله غير الحق ، ويجوز كونه عطف بيان من ( ميثاق ) ، فلا يقدر حرف جر ، والتقدير : ميثاق الكتاب انتفاء قولهم على الله إلخ .
وفعل درسوا عطف على ( يؤخذ ) ؛ لأن ( يؤخذ ) في معنى المضي ، لأجل دخول لم عليه ، والتقدير : ألم يؤخذ ويدرسوا ؛ لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب ، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله - تعالى - ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا إلى قوله وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا والتقدير : ونخلقكم أزواجا ونجعل نومكم سباتا ، إلى آخر الآية .
والمعنى : أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا الحق ، وهم عالمون بذلك الميثاق لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة .
وجملة والدار الآخرة خير للذين يتقون حالية من ضمير يأخذون أي : يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجلوه . وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضا فهم قد خيروا عليه عرض الدنيا قصدا ، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة ، بل هم قد حرموا أنفسهم ، وقرينة ذلك قوله أفلا تعقلون المتفرع على قوله والدار الآخرة خير للذين يتقون وقد فخوطبوا بـ أفلا تعقلون بالاستفهام الإنكاري ، وقد قرئ بتاء الخطاب ، على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ليكون أوقع في توجيه التوبيخ إليهم مواجهة ، وهي قراءة نزلوا في تخيرهم عرض الدنيا بمنزلة من لا عقول لهم نافع ، وابن عامر ، وابن ذكوان ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وأبي جعفر ، وقرأ البقية بياء الغيبة ، فيكون توبيخهم تعريضيا .
وفي قوله والدار الآخرة خير للذين يتقون كناية عن كونهم خسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية لأن كون الدار الآخرة خيرا مما أخذوه [ ص: 164 ] يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خير الآخرة .
وفي جعل الآخرة خيرا للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين ؛ لأن الكناية عن خسرانهم خير الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين ، وهذه معان كثيرة جمعها قوله والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون وهذا من حد الإعجاز العجيب .
ووقعت جملة والذين يمسكون بالكتاب إلى آخرها عقب التي قبلها : لأن مضمونها مقابل حكم التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدنى قد فرطوا في ميثاق الكتاب ، ولم يكونوا من المتقين ، فعقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم ، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل ، وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون . بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة ؛ لأن الصلاة شعار دين الإسلام ، حتى سمي أهل الإسلام أهل القبلة ، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من فكني عن الإيمان اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية ، لأنهم وجدوها مبدلة محرفة فبقوا في انتظار الرسول المخلص الذي بشرت به التوراة والإنجيل ، ثم آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين بعث : مثل . عبد الله بن سلام
ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب : المسلمون : ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيرا لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم .
وجملة إنا لا نضيع أجر المصلحين خبر عن الذين يمسكون ، والمصلحون هم ، والتقدير : إنا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون ، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع .