[ ص: 490 ] والأهل والآل يراد به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه . والمراد من آل فرعون وزعته ووكلاؤه ، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني ولا آل مكة ، ولما كان فرعون في الدنيا عظيما وكان الخطاب متعلقا بنجاة دنيوية من عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم كما أول قوله تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب لأن ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر ، هلك عنه سلطانه .
فإن قلت : إن كلمة أهل تطلق أيضا على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلماذا لم يؤت بها هنا حتى لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم ؟ قلت : خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم النعمة وتوفير حق الشكر ، والنعمة تعظم بما يخف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت نعمة مطلقا إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم لأنه لا يكاد ينفلت منه أحد
ولا قرار على زأر من الأسد
وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقا للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيها على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوسا من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب : عبد الملك بن مروانإن الذين أمرتهم أن يعدلوا
لم يفعلوا مما أمرت فتيلا . جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام [ ص: 491 ] في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون ، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوة ، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين وبالهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشئ عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700 ق م ، عند ظهور العائلة الثامنة عشرة .فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي ، واسم فرعون يومئذ أبوفيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح ، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى .
وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمنا طويلا غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعا بجهة يقال لها أرض جاسان ومكث الإسرائيليون على ذلك نحوا من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح وكان محاربا باسلا وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب ، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت في خدمة المزارع والمباني وصنع الآجر . وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم مدينة مخازن ( فيثوم ) ومدينة رعمسيس ثم فرعون أن يكون الإسرائيليون أعوانا لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر ، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم خشي فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم . فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحا إذ يبعد أن يروج [ ص: 492 ] مثل هذا على رئيس مملكة فيفني به فريقا من رعاياه ، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون باليهود قصدا لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون ، بوجوب الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافا باليهود ، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين .
ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها .
وجملة يسومونكم سوء العذاب حال من آل فرعون يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي كان الإسرائيليون يلاقونه من معاملة القبط لهم .
ومعنى يسومونكم يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به . يقال سامه خسفا إذا أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر . وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن .
و سوء العذاب أشده وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين .
والمراد من الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار ، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعا للنسل ويسبون الأمهات استعبادا لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج .
وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم . أو لعل تقصيرا ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشئون أبنائهن فكان المستعبدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل .
والاستحياء استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن . ووجه ذكره هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان [ ص: 493 ] المقصد منه خبيثا وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يجدن بدا من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق فيكون قوله ويستحيون نساءكم كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة .
وقيل إن الاستحياء من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد جدا . وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفا .
وقد حكت التوراة فرعون أوصى القوابل بقتل كل مولود ذكر . وجملة أن يذبحون أبناءكم إلخ بيان لجملة يسومونكم سوء العذاب فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه وهو ويستحيون نساءكم لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب لا يعتد به تجاه هذا . ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصا لأعظم أحوال سوء العذاب بالذكر وهذا هو الذي يطابق آية سورة إبراهيم التي ذكر فيها ويذبحون أبناءكم بالعطف على سوء العذاب وليس قوله ويستحيون مستأنفا لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين فعقب الفعلين بقوله إنه كان من المفسدين .
والبلاء : الاختبار بالخير والشر قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء التوب بفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر وهو تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يخلق النفس ، ثم شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتا للنفس ، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وتعلق الإنجاء بالمخاطبين لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب وتذبيح الأبناء . أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم ، أو هو تعبير عن الغائب [ ص: 494 ] بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف .