لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثا عن تكذيبهم من جاء بها ، وناشئا عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر وأن من يدعي أنه مرسل من الله مجنون ، عقب الإخبار عن المكذبين ، ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون .
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله - تعالى - أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم في سورة البقرة .
والجملة مستأنفة ، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم .
الاستفهام للتعجيب من حالهم والإنكار عليهم و ما في قوله ما بصاحبهم من جنة نافية كما يؤذن به دخول من على منفي ما لتأكيد الاستغراق .
وفعل " يتفكروا " منزل منزلة اللازم فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما [ ص: 194 ] دل عليه النفي في قوله ما بصاحبهم من جنة أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق .
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات . فنحو قوله - تعالى - لقد علمت ما هؤلاء ينطقون هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ، أي ذلك علمك وهذا علمي ، وقوله هنا أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة في قوة : أولم يتفكروا ، صاحبهم غير مجنون ، ما بصاحبهم من جنة . فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم ينبه عليه علماء المعاني ، وأن خصائص العربية لا تنحصر .
و " الصاحب " حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ، ومنه قوله - تعالى - يا صاحبي السجن ، وسميت الزوجة صاحبة ، ويطلق مجازا على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ، تنزيلا لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ، أم معبد ، لما أخبرته بدخول النبيء - صلى الله عليه وسلم - بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركته " هذا صاحب قريش " ، وقول الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق " ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر " يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم . وقول الفضل بن عباس اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلـونـا
والجنة - بكسر الجيم - اسم للجنون وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مس الجن إياه في عرف الناس ، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر [ ص: 195 ] بحرف الباء الدال على الملابسة . وإنما أنكر عليهم وعجب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه غير مجنون ، ردا عليهم وصفهم إياه بالجنون وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون وقالوا معلم مجنون وهذا كقوله - تعالى - وما صاحبكم بمجنون .
وجملة إن هو إلا نذير مبين استئناف بياني لجواب سائل منهم يقول : فماذا شأنه ، أو هي تقرير لحكم جملة ما بصاحبهم من جنة ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف .
والنذير المحذر من شيء يضر ، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ، ومنه المثل " أنا النذير العريان " يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير .
وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مفعل ، مثل الحكيم ، بمعنى المحكم ، وقول عمرو بن معد يكرب .
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع .
والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ، ووقوع هذا الوصف عقب الإخبار بنذير يقتضي أنه وصف للخبر ، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكا في صدقه ولا في تصوير الحال المحذر منها ، فالغرض من إتباع " النذير " بوصف " المبين " التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ، وذلك يقطع عذرهم .
ويجوز جعل مبين خبرا ثانيا عن ضمير صاحبهم ، والمعنى أنه نذير وأنه مبين فيما يبلغه من نذارة وغيرها .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو يقتضي وذلك قصر إضافي ، هو قصر قلب ، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ، وفي هذا استغباء أو تسفيه لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون . فدعواهم جنونه : إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ، [ ص: 196 ] وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول . انحصار أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النذارة والبيان ،