وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون
يؤذن العطف بأن الخطاب بالأمر في قوله فاستمعوا و أنصتوا وفي قوله " لعلكم " تابع للخطاب في قوله هذا بصائر من ربكم إلخ ، فقوله وإذا قرئ القرآن من جملة ما أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحا أو تعريضا بأن لا يعرضوا عن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة ، وأنه بصائر وهدى ورحمة ، لمن يؤمن به ولا يعاند ، وقد استماع القرآن " علم من أحوال المشركين أنهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " .
[ ص: 239 ] وذكر اسم القرآن إظهار في مقام الإضمار ، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار : التنويه بهذا الأمر ، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها ، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهار في مقام الإضمار استقريته من كلام البلغاء .
والاستماع الإصغاء ، وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل ، والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد لا تسمعوا . مع زيادة معنى . وذلك مقابل قولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملا في معناه المجازي ، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفا في قوله وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ويكون الإنصات جامعا لمعنى الإصغاء وترك اللغو .
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ ، وللمسلمين على وجه الإرشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها ، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معا ، أم أريد المسلمون تصريحا والمشركون تعريضا ، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته .
فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال ، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقضي إلى الإيمان به ، ولما جاء به من إصلاح النفوس ، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه ، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين .
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله " فاستمعوا له وأنصتوا " ، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله - تعالى - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى . وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول ، فلا يقول أحد منهم بأنه [ ص: 240 ] يجب على كل مسلم إذا سمع أحدا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت ، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله ، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها : فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها ، فرووا عن أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر ، أبي هريرة وروى بعضهم أن رجلا من الأنصار صلى وراء النبيء - صلى الله عليه وسلم - صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبيء - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فنزلت هذه الآية في . وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه ، عند من يخصص به ، وهذا تأويل ضعيف لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح ، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآي التي معها ، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - . أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ، ولكنهم تأولوه على أمر الندب ، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ، ولو قالوا المراد من قوله " قرئ " قراءة خاصة وهي أن يقرأه الرسول - عليه الصلاة والسلام - على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم ، لكان أحسن تأويلا .
وفي تفسير القرطبي عن : سعيد بن المسيب كان المشركون يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله - تعالى - جوابا لهم وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا .
على أن ما تقدم من الإخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة . أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة المأموم إذا كان الإمام مسرا بالقراءة فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات .
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما قرئ و استمعوا ، والفعل لا عموم له في الإثبات .
ومعنى الشرط المستفاد من " إذا " يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون [ ص: 241 ] القراءات . وعموم الأزمان أو الأحوال لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين .