لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم ، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى بدر ، وقد كانوا كارهين الخروج ، أعقب ذلك بأن أمرهم بطاعة الله ورسوله شكرا على نعمة النصر ، واعتبارا بأن ما يأمرهم به خير عواقبه ، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليله ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجه ، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة ، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول - عليه الصلاة والسلام - على ما تهواه أنفسهم ، وضرب لهم مثلا لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه ، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة ، وما نجم عن طاعتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغنم الوفير لهم مع نزارة الرزء ، ومن التأييد المبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والتأسيس لإقرار دينه ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل " وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لما أطاعوه وانخلعوا عن هواهم ، وكيف هزم المشركين لأنهم شاقوا الله ورسوله . والمشاقة ضد الطاعة تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو " إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار " وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " ، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر ، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن [ ص: 303 ] يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه ، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها ، ولذلك افتتحت ب يا أيها الذين آمنوا .
وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيلقى إلى المخاطبين قصدا لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم ، فنزل الحاضر منزلة البعيد ، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال .
والتعريف بالموصولية في قوله " يا أيها الذين آمنوا " للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به ، وأنه كما كان الشرك مسببا لمشاقة لله ورسوله في قوله " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " ، فخليق بالإيمان أن يكون باعثا على طاعة الله ورسوله ، فقوله هنا " يا أيها الذين آمنوا " يساوي قوله في الآية المردود إليها " إن كنتم مؤمنين " ، مع الإشارة هنا إلى تحقق وصف الإيمان فيهم وأن إفراغه في صورة الشرط في الآية السابقة ما قصد منه إلا شحذ العزائم ، وبذلك انتظم هذا الأسلوب البديع في المحاورة من أول السورة إلى هنا انتظاما بديعا معجزا .
والطاعة امتثال الأمر والنهي .
والتولي الانصراف ، وتقدم آنفا وهو مستعار هنا للمخالفة والعصيان .
وإفراد الضمير المجرور بعن لأنه راجع إلى الرسول ، إذ هذا المناسب - صلى الله عليه وسلم - للتولي بحسب الحقيقة ، فإفراد الضمير هنا يشبه ترشيح الاستعارة ، وقد علم أن النهي عن التولي عن الرسول نهي عن الإعراض عن أمر الله لقوله من يطع الرسول فقد أطاع الله . وأصل تولوا تتولوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا .
وجملة " وأنتم تسمعون " في موضع الحال من ضمير تولوا ، والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه ، فإن العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرام بعضها . فالمراد بالسمع هنا حقيقته أي في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض وذلك لأن فائدة السمع العمل بالمسموع ، فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو الذي لا يسمع سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع ، ولما كان الأمر بالطاعة كلاما يطاع ظهر موقع " وأنتم تسمعون " فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله [ ص: 304 ] من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضيا عدم التولي عنه ، فمن تولى عنه بعد أن سمعه فأمر عجب ثم زاد في تشويه التولي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير من التشبه بفئة ذميمة يقولون للرسول - عليه الصلاة والسلام - : سمعنا ، وهم لا يصدقونه ولا يعملون بما يأمرهم وينهاهم .
وإن للتمثيل والتنظير في الحسن والقبيح أثرا عظيما في حث النفس على التشبيه أو التجنب ، وهذا كقوله - تعالى - " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا " وسيأتي ، وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم ، وبإخبار القرآن عنهم ، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل . قال - تعالى - وإذا تتلى عليهم آيتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا قال : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة " وعن أن المراد بهم نفر من ابن عباس قريش ، وهم بنو عبد الدار بن قصي ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد ، فلم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ، وبقيتهم قتلوا جميعا في أحد ، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية ، ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا نحن صم بكم ، فلا يصح أن يكونوا هم المراد بهذه الآية ، بل المراد طوائف من المشركين ، وقيل المراد بهم اليهود ، وقد عرفوا بهذه المقالة ، واجهوا بها النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال - تعالى - " ويقولون سمعنا وعصينا " وقيل أريد المنافقون ، قال - تعالى - " ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول " وإنما يقولون " سمعنا " لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالمسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم " طاعة " ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله " وهم لا يسمعون " أي لا ينتفعون بما سمعوه ، فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم سمعنا وهو إيهامهم أنهم مطيعون ، فالواو في قوله " وهم لا يسمعون " واو الحال .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند ، وهو انتفاء السمع عنهم ، على أن المقصود الأهم من قوله " ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك .
وصيغ فعل " لا يسمعون " بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع [ ص: 305 ] فلذلك لم يقل : وهم لم يسمعوا .
وجملة " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " معترضة ، وسوقها في هذا الموضع تعريض بالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون بأنهم يشبهون دواب صماء بكماء .
والتعريض قد يكون كناية وليس من أصنافها فإن بينه وبين الكناية عموما وخصوصا وجهيا لأن التعريض كلام أريد به لازم مدلوله ، وأما الكناية فهي لفظ مفرد يراد به لازم معناه ، أما الحقيقي كقوله - تعالى - " وأمرت لأن أكون أول المسلمين " وأما المجازي نحو قولهم للجواد : جبان الكلب ، إذا لم يكن له كلب ، فأما التعريض فليس إرادة لازم معنى لفظ مفرد ولا لازم معنى التركيب ، وإنما هو إرادة لنطق المتكلم بكلامه ، قال في الكشاف عند قوله - تعالى - " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " في سورة البقرة : التعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره يريد أن تذكر كلاما دالا كما يقول المحتاج لغيره : جئت لأسلم عليك ، قلت : ومن أمثلة التعريض قول القائل ، حين يسمع رجلا يسب مسلما أو يضربه " " فكذلك قوله - تعالى - المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إن شر الدواب عند الله الصم البكم لم يرد به لازم معنى ألفاظ ولا لازم معنى الكلام ، ولكن أريد به لازم النطق به في ذلك المكان بدون مقتض للإخبار من حقيقة ولا مجاز ولا تمثيل .
والفرق بين التعريض وبين ضرب المثل : أن ضرب المثل ذكر كلام يدل على تشبيه هيئة مضربه بهيئة مورده ، والتعريض ليس فيه تشبيه هيئة بهيئة . فالتعريض كلام مستعمل في حقيقته أو مجازه ، ويحصل به قصد التعريض من قرينة سوقه فالتعريض من مستتبعات التراكيب .
وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب ، فإن الدواب ضعيفة الإدراك ، فإذا كانت صماء كانت مثلا في انتفاء الإدراك ، وإذا كانت مع ذلك بكما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها ، فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم ، فقوله " الصم البكم " خبران عن الدواب بمعناهما الحقيقي ، وقوله " الذين لا يعقلون " خبر ثالث ، وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن " الذين " [ ص: 306 ] مما يناسب المشبهين إذ هو اسم موصول بصيغة جمع العقلاء ، وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله :
خذول تراعي ربربا بخمـيلة تناول أطراف البرير وترتدي وتبسم عن ألمى كأن منورا
توسط حر الرمل دعص له ندي
و " شر " اسم تفضيل ، وأصله أشر فحذفت همزته تخفيفا كما حذفت همزة خير كقوله - تعالى - " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " الآية .
والمراد بالدواب معناه الحقيقي ، وظاهر أن الدابة الصماء البكماء أخس الدواب . " عند الله " قيد أريد به زيادة تحقيق كونهم أشر الدواب بأن ذلك مقرر في علم الله ، وليس مجرد اصطلاح ادعائي ، أي هذه هي الحقيقة في تفاضل الأنواع لا في تسامح العرف والاصطلاح ، فالعرف يعد الإنسان أكمل من البهائم ، والحقيقة تفصل حالات الإنسان ، فالإنسان المنتفع بمواهبه فيما يبلغه إلى الكمال هو بحق أفضل من العجم ، والإنسان الذي دلى بنفسه إلى حضيض تعطيل انتفاعه بمواهبه السامية يصير أحط من العجماوات .
والمشبهون بالصم البكم هم الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا لأنه مما يكفي سماعه في قبوله والعمل به ، وشبهوا بالبكم في انقطاع الحجة والعجز عن رد ما جاءهم به القرآن فهم ما قبلوه ولا أظهروا عذرا عن عدم قبوله .
ولما وصفهم بانتهاء قبول المعقولات والعجز عن النطق بالحجة أتبعه بانتفاء العقل عنهم أي عقل النظر والتأمل بله عقل التقبل ، وقد وصف بهذه الأوصاف في القرآن كل من المشركين والمنافقين في مواضع كثيرة .
ولعل ما روي عن من قوله : إن الآية نزلت في نفر من ابن عباس بني عبد الدار كما تقدم آنفا إنما عنى بهم نزول قوله - تعالى - " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " لأنهم الذين قالوا مقالة تقرب مما جاء في الآية .
وجملة " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " يجوز أن تكون معطوفة على جملة " إن شر الدواب عند الله الصم البكم " إلخ باعتبار أن الدواب مشبه به الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون [ ص: 307 ] ويجوز أن تكون معطوفة على شبه الجملة في قوله " كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " وقد سكت المفسرون عن موقع إعراب هذه الجملة وهو دقيق ، والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال ، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد ، فكانوا كالصم ، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كمالا نفسانيا فكانوا كالبكم . فالمعنى : لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وفق التعلم ، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعلقهم ، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلا بما يقلب قلوبهم من لطف إلهي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم .
و لو حرف شرط يقتضي انتفاء مضمون جملة الشرط وانتفاء مضمون جملة الجزاء لأجل انتفاء مضمون الشرط ، والاستدلال بانتفاء الجزاء على تحقق انتفاء الشرط .
و في للظرفية المجازية التي هي في معنى الملابسة ، ومن لطائفها هنا أنها تعبر عن ملابسة باطنية .
ولما كان لو حرفا يفيد امتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه ، كان أصل معنى " لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيرا ، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهم كمن لا يسمع .
فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير ، بعلم الله عدم الخير فيهم ، ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم ، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يسمعهم كلامه ، فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم ، وهو القابلية للخير ، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء .
فصار معنى " لو علم الله فيهم خيرا " لو كان في نفوسهم خير . وعبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعال نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يبلغهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 308 ] من القرآن والمواعظ . فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلق والامتثال لما يسمعونه من الخير .
وحاصل المعنى : لو جبلهم الله على قبول الخير لجعلهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير ، فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير ، وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق ، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم ، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناس الصفات وأشخاصها . وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله - تعالى - لو شاء أن يجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم .
وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسه ، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه ، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخير فأصبح قابلا للإرشاد والهدى ، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيرا حينئذ فأسمعه ، فمثل ذلك مثل أبي سفيان ، إذ كان فيما قبل ليلة فتح مكة قائد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأدخل إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقال له : أبو سفيان : لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا . ثم قال له الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأن تشهد أني رسول الله . فقال : أما هذه ففي القلب منها شيء . فلم يكمل حينئذ إسماع الله إياه ثم تم في نفسه الخير فلم يلبث أن أسلم فأصبح من خيرة المسلمين . أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله . قال
وجملة " ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " معطوفة على جملة " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم ، فإنهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء ، ارتقى بالإخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير ، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا ، فتولوا وأعرضوا .
[ ص: 309 ] وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة ، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك ، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يلقى إليه فاهتدى ، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريث على الكفر زمنا متفاوت الطول والقصر .
واعلم أن ليس عطف جملة " ولو أسمعهم لتولوا " على جملة " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " بمقصود منه تفرع الثانية على الأولى تفرع القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس ، لأن ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الأقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوبا عربيا ، فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى ، ولا تجمع بينهما إلا مناسبة المعنى والغرض ، فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، ولو كان النهار موجودا لدرجت الدواجن ، فإنه قد ينتج : لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن ، بواسطة تدرج اللزومات في ذهن المحجوج تقريبا لفهمه ، فإن ذلك بمنزلة التصريح بنتيجة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلة مقدمة قياس ثان فتطوى النتيجة لظهورها اختصارا ، وهذا ليس بأسلوب عربي ، إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدم وتال ثم يستدرك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم ، كقول أبي بن سلمى بن ربيعة يصف فرسه :
ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم رعايا ولكن مـا لهن دوام
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت
فإن إجرار اللسان يمنع نطقه ، فكان في معنى ولكن الرماح تنطقني . والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء .
[ ص: 310 ] واعلم أن " لو " الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل " لو " المشتهرة بين النحاة بلو الصهيبية بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول " نعم العبد عمر بن الخطاب صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " وذلك أن تستعمل " لو " لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم . فيأتي بجملة الشرط حينئذ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمون الجزاء عند حصولها لو كان ذلك مما يحتمل التخلف ، فقوله : لو لم يخف الله لم يعصه ، المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنه من غضب الله . فليس المراد أنه خاف فعصى ، ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى . ومن هذا القبيل قوله - تعالى - " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعواد الشجر كله أقلاما . لا أن كلمات الله تنفد إن لم تكن الأشجار أقلاما والأبحر مدادا ، وكذا قوله - تعالى - ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا ، بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان .
وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له لو وتصير لو في مجرد الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل . وستجيء زيادة في استعمال لو الصهيبية عند قوله - تعالى - " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " في هذه السورة .
[ ص: 311 ] فهكذا تقرير التلازم في قوله - تعالى - هنا " ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتولوا ، لأن توليهم ثابت ، بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو أسمعهم الله الإسماع المخصوص ، وهو إسماع الإفهام ، فكيف إذا لم يسمعوه .
وجملة " وهم معرضون " حال من ضمير " تولوا " وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي ، وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن إعراضهم أي إعراضا لا قبول بعده ، وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل . مصعب بن عمير