مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمون هذه الجملة مرتبطا بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تكمله ، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف .
وافتتحت الجملة ب " اعلموا " للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعده ، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أو طلب فهم ب " اعلم " أو " تعلم " لفتا لذهن المخاطب .
وفيه تعريض غالبا بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلا علم المخاطب ، فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام ، قال - تعالى - اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم . وقال : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " الآية . وقال في الآية بعد هذه " واعلموا أن الله شديد العقاب " وفي الحديث وقد رآه يضرب عبدا له " اعلم لأبي مسعود الأنصاري أبا مسعود اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام وقد يفتتحون بتعلم أو تعلمن . قال أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال زهير :
قلت تعلم أن للصيد غرة وإلا تضيعها فإنك قاتله
وقال زياد بن سيار :تعلم شفاء النفس قهر عدوهـا فبالغ بلطف في التحيل والمكر
وقال بشر بن أبي خازم :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
و أن بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت ، والمصدر المؤول يسد مسد مفعولي علم مع إفادة أن التأكيد .
والحول ، ويقال الحئول : منع شيء اتصالا بين شيئين أو أشياء . قال - تعالى - وحال بينهما الموج .
[ ص: 315 ] وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان ، والمعنى يحول شأن من شئون صفاته ، وهو تعلق صفة العلم بالاطلاع على ما يضمره المرء ، أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرء أو بصرفه عن فعله ، وليس المراد بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر ، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم ، بل المراد عقل المرء وعزمه ، وهو إطلاق شائع في العربية .
فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى : واعلموا أن علم الله يخلص بين المرء وعقله خلوص الحائل بين شيئين فإنه يكون شديد الاتصال بكليهما .
والمراد بالمرء عمله وتصرفاته الجسمانية .
فالمعنى أن الله يعلم عزم المرء ونيته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحه ، فشبه علم الله بذلك بالحائل بين شيئين في كونه أشد اتصالا بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله - تعالى - ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .
وجيء بصيغة المضارع " يحول " للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر ، وهذا في معنى قوله - تعالى - " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " قاله قتادة .
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس : من التراخي في - ، والتنصل منها ، أو التستر في مخالفته ، وهو معنى قوله " الاستجابة إلى دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " .
وبهذا يظهر وقع قوله " وأنه إليه تحشرون " عقبه ، فكان ما قبله تحذيرا وكان هو تهديدا . وفي الكشاف ، وابن عطية : قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرء موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة ، أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره : إن أجل الله يحول بين المرء وقلبه ، أي بين عمله وعزمه . قال - تعالى - " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " الآية .
وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام ، والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة [ ص: 316 ] " أن الله يحول بين المرء وقلبه " إلا تعلق شأن من شئون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما ، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر ، وأن كلمة " بين " تقتضي شيئين ، فما يكون تحول إلا إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائع ، فإن ذلك تحويل وليس حئولا .
وجملة " وأنه إليه تحشرون " عطف على أن الله يحول بين المرء وقلبه ، والضمير الواقع اسم أن ضمير اسم الجلالة ، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته ، ولإجراء أسلوب الكلام على أسلوب قوله " أن الله يحول " إلخ .
وتقديم متعلق " تحشرون " عليه لإفادة الاختصاص أي : إليه لا إلى غيره تحشرون ، وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجأ أو مخبأ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله ، فكنى عن انتفاء المكان بانتفاء محشور إليه غير الله بأبدع أسلوب ، وليس الاختصاص لرد اعتقاد ، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون ، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم .