ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
استئناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله - تعالى - يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه الآية وما بعده من الآيات إلى هنا .
وافتتح بالنداء للاهتمام ، كما تقدم آنفا .
وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفا في نظائره ، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه ، وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى . بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها
ففعل الشرط مراد به الدوام ، فإنهم كانوا متقين ، ولكنهم لما حذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك .
ولقد بدا حسن المناسبة إذ رتبت على المنهيات تحذيرات من شرور وأضرار [ ص: 326 ] من قوله إن شر الدواب عند الله الصم البكم وقوله واتقوا فتنة الآية ، ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل .
والفرقان أصله مصدر كالشكران والغفران والبهتان ، وهو ما يفرق أي يميز بين شيئين متشابهين ، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر ، لأنه يفرق بين حالين كانا محتملين قبل ظهور النصر ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال - تعالى - ولقب القرآن بالفرقان تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه ، فقد فسر بالنصر ، وعن السدي ، والضحاك ، ومجاهد ، الفرقان : المخرج ، وفي أحكام ابن العربي ، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكا عن قوله - تعالى - يجعل لكم فرقانا قال : مخرجا ، ثم قرأ " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا ، فيشمل ذلك أحوال النفس : من الهداية ، والمعرفة ، والرضى ، وانشراح القلب ، وإزالة الحقد والغل والحسد بينهم ، والمكر والخداع وذميم الخلائق .
وقد أشعر قوله " لكم " أن الفرقان شيء نافع لهم ، فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد ، فيئول إلى استقامة أحوال الحياة ، حتى يكونوا مطمئني البال منشرحي الخاطر ، وذلك يستدعي أن يكونوا منصورين ، غالبين ، بصراء بالأمور ، كملة الأخلاق ، سائرين في طريق الحق والرشد ، وذلك هو ملاك استقامة الأمم ، فاختيار الفرقان هنا لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيره مؤداه في هذا الغرض وذلك من تمام الفصاحة .
فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى . ومفعول " يغفر لكم " ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب ، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب ، وهو الصغائر التي عبر عنها باللمم ، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبة لها . وقيل : التكفير الستر في الدنيا ، والغفران عدم المؤاخذة بها في [ ص: 327 ] الآخرة ، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها ، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال . والتقوى تشمل التوبة ،
وقوله والله ذو الفضل العظيم تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى .