كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى جهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر ، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بأصرح عبارة ، وهذا كقول عويف القوافي :
اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
وعرفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر . فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم .
وليميز متعلق ب يحشرون لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر ، لأن العلة غير المؤثرة تكون متعددة ، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحكم لحشر الكافرين إلى جهنم .
وقرأ الجمهور ليميز بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية مضارع ماز بمعنى فرز ، وقرأ حمزة والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية . مضارع ميز إذا محص الفرز ، وإذ أسند هذا الفعل إلى الله - تعالى - استوت القراءتان .
[ ص: 343 ] والخبيث الشيء الموصوف بالخبث والخباثة ، وحقيقة ذلك أنه حالة حسية لشيء تجعله مكروها مثل القذر ، والوسخ ، ويطلق الخبث مجازا على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيها للمعقول بالمحسوس ، وهو مجاز مشهور والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال ، والطيب الموصوف بالطيب ضد الخبث بإطلاقه ، فالكفر خبث لأن أساسه الاعتقاد الفاسد ، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقائقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها ، ثم إن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليب حقائق الأمور ، وما من ضلالة إلا وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها ، والإيمان بخلاف ذلك .
و ( من ) في قوله من الطيب للفصل ، وتقدم بيانها عند قوله - تعالى - والله يعلم المفسد من المصلح في سورة البقرة .
وجعل الخبيث بعضه على بعض : علة أخرى لحشر الكافرين إلى جهنم ولذلك عطف بالواو ، فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد ، لزيادة تمييزه عن الطيب ، ولتشهير من كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإيمان . وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام ، إذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا ركاما .
والركم : ضم شيء أعلى إلى أسفل منه ، وقد وصف السحاب بقوله " ثم يجعله ركاما " .
واسم الإشارة ب أولئك هم الخاسرون للتنبيه على أن استحقاقهم الخبر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة ، فإن من كانت تلك حاله كان حقيقا بأنه قد خسر أعظم الخسران لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة .
فصيغة القصر في قوله " هم الخاسرون " هي للقصر الادعائي ، للمبالغة في اتصافهم بالخسران ، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس .