لما عرفهم الله بنعمه ودلائل عنايته ، وكشف لهم عن سر من أسرار نصره إياهم ، وكيف خذل أعداءهم ، وصرفهم عن أذاهم ، فاستتب لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم ، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيئ لهم النصر في المواقع كلها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييده إياهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قوام النصر في الحروب . وهذه الجمل معترضة بين جملة وإذ يريكموهم وجملة وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم
وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماما بها ، وجعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية : لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى ; لأن ذلك أخص صفاتهم تلقاء أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا
واللقاء : أصله مصادفة الشخص ومواجهته باجتماع في مكان واحد ، كما تقدم عند قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات وقوله : واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه في سورة البقرة . وقد غلب إطلاقه على لقاء خاص وهو لقاء القتال ، فيرادف القتال والنزال .
[ ص: 30 ] وقد تقدم اللقاء قريبا في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا وبهذا المعنى تعين أن المراد بالفئة : فئة خاصة وهي فئة العدو ، يعني المشركين .
والفئة الجماعة من الناس ، وقد تقدم اشتقاقها عند قوله تعالى : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة في سورة البقرة .
والثبات : أصله لزوم المكان دون تحرك ولا تزلزل ، ويستعار للدوام على الفعل وعدم التردد فيه ، وقد أطلق هنا على معناه المجازي ، إذ ليس المراد عدم التحرك ، بل أريد الدوام على القتال وعدم الفرار ، وقد عبر عنه بالصبر في الحديث الصحيح لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا .
وذكر الله ، المأمور به هنا : هو ذكره باللسان ; لأنه يتضمن ذكر القلب وزيادة فإنه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه ، وسمع الذكر بسمعه ، وذكر من يليه بذلك الذكر ، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرد ، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهر وصفه بـ " كثيرا " لأن الذكر بالقلب يوصف بالقوة ، والمقصود تذكر أنه الناصر . وهذان أمران أمروا بهما وهما يخصان المجاهد في نفسه ، ولذلك قال لعلكم تفلحون . فهما لإصلاح الأفراد ، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم ، وهي علائق بعضهم مع بعض ، وهي الطاعة وترك التنازع ، فأما طاعة الله ورسوله فتشمل اتباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين ، مثل الغنائم .
وكذلك ما يأمرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من آراء الحرب كقوله للرماة يوم أحد . وتشمل طاعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاعة أمرائه في حياته ، لقوله : " لا تبرحوا من مكانكم ولو تخطفنا الطير " . وتشمل طاعة أمراء الجيوش بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمساواتهم لأمرائه الغائبين عنه في الغزوات والسرايا في حكم الغيبة عن شخصه . ومن أطاع أميري فقد أطاعني
وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك : بالتفاهم ، والتشاور ، ومراجعة بعضهم بعضا ، حتى يصدروا عن رأي واحد ، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم لقوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم وقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . والنهي عن التنازع أعم من [ ص: 31 ] الأمر بالطاعة لولاة الأمور : لأنهم إذا نهوا عن التنازع بينهم فالتنازع مع ولي الأمر أولى بالنهي .
ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء ، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره ، فجاء بالتفريع بالفاء في قوله : فتفشلوا وتذهب ريحكم فحذرهم أمرين معلوما سوء مغبتهما : وهما الفشل وذهاب الريح .
والفشل : انحطاط القوة وقد تقدم آنفا عند قوله : ولو أراكهم كثيرا لفشلتم وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدو ، ويصح أن يكون تمثيلا لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه ، في انعدام إقدامه على العمل . وإنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم ، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر ، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا ، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال ، فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم ، فيتمكن منهم العدو ، كما قال في سورة آل عمران حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم
والريح حقيقتها تحرك الهواء وتموجه ، واستعيرت هنا للغلبة ، وأحسب أن وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أن الريح لا يمانع جريها ولا عملها شيء فشبه بها الغلب والحكم . وأنشد ابن عطية ، لعبيد بن الأبرص :
كما حميناك يوم النعب من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وفي الكشاف قال سليك بن السلكة :يا صاحبي ألا لا حي بالـوادي إلا عبيد قـعـود بـين أذواد
هل تنظران قليلا ريث غفلتهم أو تعدوان فإن الريح للعـادي
[ ص: 32 ] والمعنى : وتزول قوتكم ونفوذ أمركم وذلك لأن التنازع يفضي إلى التفرق ، وهو يوهن أمر الأمة ، كما تقدم في معنى الفشل .
ثم أمرهم الله بشيء يعم نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ، ويسهل عليهم الأمور الأربعة ، التي أمروا بها آنفا في قوله : فاثبتوا واذكروا الله كثيرا وفي قوله : وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا الآية . ألا وهو الصبر ، فقال " واصبروا " لأن الصبر هو تحمل المكروه وما هو شديد على النفس ، وتلك المأمورات كلها تحتاج إلى تحمل المكاره ، فالصبر يجمع تحمل الشدائد والمصاعب ، ولذلك كان قوله : واصبروا بمنزلة التذييل .
وقوله : إن الله مع الصابرين إيماء إلى منفعة للصبر إلهية ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالا لأمره ، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها .
وجملة إن الله مع الصابرين قائمة مقام التعليل للأمر ; لأن حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع ، كما تقدم في مواضع .