استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفار آخرين هم الذين بينهم بقوله : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم الآية . وهؤلاء عاهدوا [ ص: 47 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهم على كفرهم ، ثم نقضوا عهدهم ، وهم مستمرون على الكفر ، وإنما وصفهم بشر الدواب لأن دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة ، ومعجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسطع ، ولأن الدلالة على أحقية الإسلام دلالة عقلية بينة ، فمن يجحده فهو أشبه بما لا عقل له ، وقد اندرج الفريقان من الكفار في جنس شر الدواب
وتقدم آنفا الكلام على نظير قوله : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الآية .
وتعريف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنهم شر الدواب .
والفاء في فهم لا يؤمنون عطفت صلة على صلة ، فأفادت أن الجملة الثانية من الصلة ، وأنها تمام الصلة المقصودة للإيماء ، أي : الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام . ولما كان هذا الوصف هو الذي جعلهم شر الدواب عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أن سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين ، وأتى بصلة فهم لا يؤمنون جملة اسمية لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنهم غير مرجو منهم الإيمان .
فإن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي ، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم ، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قويا فهم بعداء عنه أشد الابتعاد .
وليس التقديم هنا مفيدا للتخصيص لأن التخصيص لا أثر له في الصلة ، ولأن الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي ، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي ، أن لا يفيد تقديمه إلا التقوي ، دون التخصيص ، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله - تعالى : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون إذ لا يراد وأنتم دون غيركم لا تظلمون .
فقوله : الذين عاهدت منهم بدل من الذين كفروا بدلا مطابقا ، فالذين عاهدهم هم الذين كفروا ، فهم لا يؤمنون . وتعدية عاهدت بـ ( من ) للدلالة على أن العهد كان يتضمن التزاما من جانبهم ; لأنه يقال أخذت منه عهدا ، أي التزاما ، [ ص: 48 ] فلما ذكر فعل المفاعلة ، الدال على حصول الفعل من الجانبين ، نبه على أن المقصود من المعاهدة التزامهم بأن لا يعينوا عليه عدوا ، وليست ( من ) تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجها إلى بعض الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، وهم الذين ينقضون عهدهم .
وعن ابن عباس ، وقتادة : أن المراد بهم قريظة فإنهم عاهدوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوه ، ثم نقضوا عهدهم فأمدوا المشركين بالسلاح والعدة يوم بدر ، واعتذروا فقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق ، ومالوا مع الأحزاب ، وأمدوهم بالسلاح والأدراع .
والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرهم من بعض قبائل المشركين ، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبيء - صلى الله عليه وسلم - ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم الآية وقد نقض عبد الله بن أبي ومن معه عهد النصرة في أحد ، فانخذل بمن معه وكانوا ثلث الجيش . وقد ذكر في أول سورة " براءة " عهد فرق من المشركين . وهذا هو الأنسب بإجراء صلة " الذين كفروا " عليهم لأن الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين .
والتعبير في جانب نقضهم العهد بصيغة المضارع : للدلالة على أن ذلك يتجدد منهم ويتكرر ، بعد نزول هذه الآية ، وأنهم لا ينتهون عنه ، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم ، ولذلك فرع عليه قوله فإما تثقفنهم في الحرب إلخ . فالتقدير : ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كل مرة .
والمراد بـ " كل مرة " كل مرة من المرات التي يحق فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرر العهد أم لم يتكرر ; لأن العهد الأول يقتضي الوفاء كلما دعا داع إليه .
والأظهر أن هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر ، وقبل وقعة الخندق ، فالنقض الحاصل منهم حصل مرة واحدة ، وأخبر عنه بأنه يتكرر مرات . وإن كانت نزلت بعد الخندق ، بأن امتد زمان نزول هذه السورة ، فالنقض منهم قد حصل مرتين ، [ ص: 49 ] والإخبار عنه بأنه يتكرر مرات هو هو ، فلا جدوى في ادعاء أن الآية نزلت بعد وقعة الخندق .
وجملة وهم لا يتقون إما عطف على الصلة ، أو على الخبر ، أو في محل الحال من ضمير " ينقضون " . وعلى جميع الاحتمالات فهي دالة على أن انتفاء التقوى عنهم صفة متمكنة منهم ، وملكة فيهم ، بما دل عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه ، كما تقدم في قوله : فهم لا يؤمنون
ووقوع فعل " يتقون " في حيز النفي يعم سائر جنس الاتقاء وهو الجنس المتعارف منه ، الذي يتهمهم به أهل المروءات والمتدينون ، فيعم اتقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة ، ويعم اتقاء العار ، واتقاء المسبة واتقاء سوء السمعة . فإن الخيس بالعهد والغدر من القبائح عند جميع أهل الأحلام ، وعند العرب أنفسهم ، ولأن من عرف بنقض العهد عدم من يركن إلى عهده وحلفه ، فيبقى في عزلة من الناس . فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين ، فلم يعبأوا بما يجره نقض العهد من الأضرار لهم .
وإذ قد تحقق منهم نقض العهد فيما مضى ، وهو متوقع منهم فيما يأتي ، لا جرم تفرع عليه أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلهم نكالا لغيرهم ، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوه .
وجاء الشرط بحرف " إن " مزيدة بعدها " ما " لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ " إن " عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد . وفي شرح الرضي على الحاجبية ، عن بعض النحاة : لا يجيء " إما " إلا بنون التأكيد بعده كقوله - تعالى : فإما ترين . وقال ابن عطية في قوله : فإما تثقفنهم دخلت النون مع " إما " : إما للتأكيد أو للفرق بينها وبين " إما " التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إما زيد وإما عمرو .
وقلت : دخول نون التوكيد بعد " إن " المؤكدة بـ " ما " غالب ، وليس بمطرد ، فقد قال الأعشى :
إما ترينا حفاة لا نعال لنا إنا كذلك ما نحفى وننتعل
[ ص: 50 ] فلم يدخل على الفعل نون التوكيد .والثقف : الظفر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم .
والتشريد : التطريد والتفريق ، أي : فبعد بهم من خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .
وجعلت ذوات المتحدث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمراد أحوال الذوات مثل حرمت عليكم الميتة . وقد علم أن متعلق تشريد من خلفهم هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .
والخلف : هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتباع ، ونظيره الوراء . في قول ضمام بن ثعلبة : وأنا رسول من ورائي . وقال وفد الأشعريين للنبيء - صلى الله عليه وسلم : فمرنا بأمر نأخذ به ونخبر به من وراءنا . والمعنى : فاجعلهم مثلا وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبيء - صلى الله عليه وسلم - بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم فحكم بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية ، فقتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ ، بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .
وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر بالإغلاظ على العدو لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ; لأنهم استحقوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنه يصد أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شر الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدة كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل رحمة للعالمين ; لأن المراد أنه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدة على قليل منهم كقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة
[ ص: 51 ] وضمير الغيبة في لعلهم يذكرون راجع إلى ( من ) الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .
والتذكر تذكر حالة المثقفين في الحرب التي انجرت لهم من نقض العهد ، أي لعل من خلفهم يتذكرون ما حل بناقضي العهد من النكال ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل معنى التذكر إلى لازمه وهو الاتعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .