والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وما عطف عليه . والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأن بعضهم أولياء بعض . خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنهم ليسوا بأولياء للمسلمين لأن الإخبار عن ولاية بعضهم بعضا ليس صريحة مما يهم المسلمين لولا أن القصد النهي عن موالاة المسلمين إياهم ، وبقرينة قوله : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير أي : إن لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير " تفعلوه " عائد إلى ما في قوله : بعضهم أولياء بعض بتأويل : المذكور ، لظهور أن ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضا ، لولا أن المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إياهم .
[ ص: 88 ] والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وقوله والفتنة أشد من القتل في سورة البقرة ، وقد تقدم القول فيها آنفا في هذه السورة .
والفتنة تحصل من مخالطة المسلمين مع المشركين ; لأن الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيرا لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحنوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر . فكان إيجاب مقاطعتهم لقصد قطع نفوسهم عن تذكر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلا حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلا بما يقويها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرغ بال من تحسر أو تعطف على المشركين ، فإن الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي فلذا كان هذا حسما لوسائل الفتنة .
والتعريف في " الأرض " للعهد والمراد أرض المسلمين .
والفساد ضد الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .
والكبير حقيقته العظيم الجسم . وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله - تعالى : كبرت كلمة تخرج من أفواههم والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإن المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنه قد يحدث بينهم الاختلاف من جراء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضا بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأن المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية وإنما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافا واحدا ، وتجنب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة . وذلك فساد كبير .