وأما كونه بالواو دون الفاء فليكون خبرا مقصودا بذاته وليس متفرعا على قول موسى لهم أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل الآية ، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعا لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال .
[ ص: 527 ] فالضمير في قوله وضربت عليهم وباءوا إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا لن نصبر على طعام واحد بدليل قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق فإن الذين قتلوا النبيئين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا لن نصبر فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله وضربت عليهم الذلة إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله ، أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توارث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله وإذ فرقنا بكم البحر الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر .
والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف ، وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق . فمنه ضرب في الأرض . سار طويلا ، وضرب قبة وبيتا في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض . قال عبدة بن الطبيب :
إن التي ضربت بيتا مهاجرة
وقال : زياد الأعجمفي قبة ضربت على ابن الحشرج وضرب الطين على الحائط ألصقه
ثم إن قوله تعالى وضربت عليهم الذلة ليس هو من باب قول : زياد الأعجم
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
ومعنى لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم . لزوم الذلة والمسكنة
والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضي الله إلى غضبه .