ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان
استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم ، فإنه لما كان أول السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر ، لا جرم تهيأ المتام لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان : المنافقين من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب ، ممن عرفوا بذلك ، أو لم يعرفوا وأطلع الله عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم ، وحذر المؤمنين المطلعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم [ ص: 151 ] ومخالطتهم ، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصا ، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم ، ولذلك افتتح الخطاب بـ يا أيها الذين آمنوا : إشعار بأن ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضيات الإيمان وشعاره .
وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله - تعالى : وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقوله : وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ونظائرهما من الآيات .
روى عن الطبري مجاهد ، والواحدي عن الكلبي أنهم لما أمروا بالهجرة وقال العباس : أنا أسقي الحاج ، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا حاجب الكعبة ، فلا نهاجر ، تعلق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا " أتضيعوننا " فرقوا لهم وجلسوا معهم ، فنزلت هذه الآية .
ومعنى استحبوا الكفر أحبوه حبا متمكنا . فالسين والتاء للتأكيد ، مثل ما في استقام واستبشر .
حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبوا الكفر على الإيمان ، في ظاهر أمرهم أو باطنه ، إذا اطلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذكر من صفاتهم في هذه السورة ، وجعل التحذير من أولئك بخصوص ، كونهم آباء وإخوانا تنبيها على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أن من دونهم أولى بحكم النهي . ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنهم تابعون فلا يقعدون بعد متبوعيهم .
وقوله : فأولئك هم الظالمون أريد به الظالمون أنفسهم لأنهم وقعوا فيما نهاهم الله ، فاستحقوا العقاب فظلموا أنفسهم بتسبب العذاب لها ، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مرادا به الشرك . وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أن ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم . ويجوز أن يكون هم " الظالمون " عائدا إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله : ومن يتولهم أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبوا الكفر على الإيمان ، [ ص: 152 ] والمعنى ومن يتولهم فقد تولى الظالمين فيكون الظلم على هذا مرادا به الشرك ، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن .
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء ، وللتنبيه على أن جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان .