وقد تكون الجملة في محل التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله : ولقد قالوا كلمة الكفر وما بعده ، وأن ذلك إنما أخر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء ، وأتي بالمقصود في صورة جملة حالية . ومعلوم أن القيد هو المقصود من الكلام المقيد . ويرجح هذا أن معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضهم عهد الإسلام ، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتصر على إثبات مقابله وهو ولقد قالوا كلمة الكفر ، ولم يكن لما بعده مزيد اتصال به .
وأيا ما كان فالجملة مستحقة الفصل دون العطف .
ومفعول ( ما قالوا ) محذوف دل عليه قوله : ولقد قالوا كلمة الكفر
وأكد صدور كلمة الكفر منهم ، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها ، بصيغة القسم ليكون تكذيب قولهم مساويا لقولهم في التأكيد .
و ( كلمة الكفر ) الكلام الدال عليه ، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركب منه ومن مثله الكلام المفيد ، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاما جامعا موجزا كما في قوله - تعالى : كلا إنها كلمة هو قائلها وفي الحديث لبيد :
[ ص: 269 ]
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أصدق كلمة قالها شاعر كلمةفكلمة الكفر جنس لكل كلام فيه تكذيب النبيء - صلى الله عليه وسلم ، كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها ، ما هي إلا أفراد من هذا الجنس كما دل عليه إسناد القول إلى ضمير جماعة المنافقين . فعن قتادة : لا علم لنا بأن ذلك من أي إذ كان لا خبر يوجب الحجة ونتوصل به إلى العلم .
وقيل : المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدل على تكذيب النبيء - صلى الله عليه وسلم - فعن عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق أن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - بن سويد بن الصامت قال : لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها ، فأخبر عنه ربيبه النبيء فدعاه النبيء وسأله عن مقالته ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وقيل : بل نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك .
فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمع كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا . وقد فعله واحد ، أو باعتبار قول واحد وسماع البقية فجعلوا مشاركين في التبعة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا ، وإنما قتله واحد من القبيلة ، وعلى فرض صحة وقوع كلمة من واحد معين فذلك لا يقتضي أنه لم يشاركه فيها غيره لأنهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه . وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه .
وأما إسناد الكفر إلى الجمع في قوله : وكفروا بعد إسلامهم فكذلك .
ومعنى بعد إسلامهم بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة ، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدم في قوله - تعالى : لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
و ( الهم ) نية الفعل سواء فعل أم لم يفعل .
[ ص: 270 ] ونوال الشيء حصوله ، أي هموا بشيء لم يحصلوه ، والذي هموا به هو تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يترصدوا له في عقبة بالطريق تحتها واد فإذا اعتلاها ليلا يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائرا وقد أخذ الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مرجعه من بخطام راحلته يقودها . وكان عمار بن ياسر يسوقها فأحس حذيفة بن اليمان حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا .
وجملة وما نقموا عطف على ولقد قالوا أي والحال أنهم ما ينقمون على النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولا على دخول الإسلام المدينة شيئا يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة .
والنقم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدم في قوله - تعالى : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا في سورة الأعراف .
وقوله : إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله استثناء تهكمي . وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ونكتته أن المتكلم يظهر كأنه يبحث عن شيء ينقض حكمه الخبري ونحوه فيذكر شيئا هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنه استقصى فلم يجد ما ينقضه .
وإنما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبيء - عليه الصلاة والسلام - بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات ، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروب تفانوا فيها قبيل الهجرة وهي حروب بعاث .
و ( الفضل ) الزيادة في البذل والسخاء . و " من " ابتدائية . وفي جعل الإغناء من الفضل كناية عن وفرة الشيء المغنى به ؛ لأن ذا الفضل يعطي الجزل .
وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنه السبب الظاهر المباشر .