من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي .
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية .
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .
وتقديم النبيء - صلى الله عليه وسلم - في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ومعنى تاب عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أو لم يكنه ، كقوله - تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبيء والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . لعل الله اطلع على
[ ص: 50 ] وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .
والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا أسوة لمن اتسى بهم من غيرهم من القبائل .
ووصف ( المهاجرون ) و ( الأنصار ) بـ الذين اتبعوه للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسببا في هذه المغفرة .
ومعنى اتبعوه أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي .
والساعة : الحصة من الزمن .
والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة . وساعة العسرة هي زمن استنفار النبيء - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى غزوة تبوك . فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد . ويدل لذلك قوله : من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق بـ ( اتبعوه ) أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع .
و ( كاد ) من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عمل ( كان ) ، واسمها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ .
وقرأ الجمهور " تزيغ " بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية . وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر . [ ص: 51 ] والزيغ : الميل عن الطريق المقصود . وتقدم عند قوله - تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا في سورة آل عمران .
وجملة ثم تاب عليهم عطف على جملة لقد تاب الله أي تاب على غير هذا الفريق مطلقا ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون ثم على أصلها من المهلة . وذلك كقوله في نظير هذه الآية ثم تاب عليهم ليتوبوا . والمعنى : تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله : عليهم لـ ( فريق ) . وجوز كثير من المفسرين أن تكون ( ثم ) للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيدا لجملة ( تاب الله ) ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم .
وجملة إنه بهم رءوف رحيم تعليل لما قبلها على التفسيرين .