قيل الواو لعطف الجملة على جملة وقد كان فريق منهم فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهو يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون لن تمسنا النار .
والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله يكتبون إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار ووجه المناسبة أن قولهم لن تمسنا النار دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد آمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوما وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم .
ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام .
وقوله وقالوا أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله قالوا آمنا ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب " علام تقول الرمح يثقل عاتقي " . والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى والذين كفروا بآياتنا يمسهم العذاب وعبر عن نفيهم بحرف لن الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة لن على استغراق الأزمان تأتى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله إلا أياما معدودة على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية .
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد شاع في العرف والعوائد [ ص: 580 ] أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا .
وتأنيث ( معدودة ) وهو صفة ( أياما ) مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى أياما معدودات وقوله قل أتخذتم عند الله عهدا جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده بلى فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين . وليس إنكاريا لوجود المعادل وهو أم تقولون لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له . والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد . ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك .
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و عند لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان . وقوله فلن يخلف الله عهده الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه ، وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن لن للاستقبال . وأما في قوله أم تقولون على الله ما لا تعلمون معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به في الإيضاح وهو التحقيق كما قال ابن الحاجب عبد الحكيم فما قاله صاحب المفتاح من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير .
وقوله بلى إبطال لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة . وقوله من كسب سيئة سند لما تضمنته ( بلى ) من إبطال قولهم أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ [ ص: 581 ] و من كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد :
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر ، فمن في قوله من كسب سيئة شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب بلى بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله بلى . والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله : ( وأحاطت به خطيئاته ) . وقوله ( ) الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء ؛ لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى وأحاطت به خطيئاته وظنوا أنهم أحيط بهم وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله ثم كان من الذين آمنوا فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة .والقصر المستفاد من التعريف في قوله فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قصر إضافي لقلب اعتقادهم . وقوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن . والمراد بالخلود هنا حقيقته .