[ ص: 274 ] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين
معطوفة على جملة وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا عطف الغرض على التمهيد ، أي ، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر .
وجاوزنا ، أي قطعنا بهم البحر ، والباء للتعدية ، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر . وتقدم نظيره في سورة الأعراف . ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه ، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمرون منها .
وأتبعهم بمعنى لحقهم . يقال : تبعه فأتبعه إذا سار خلفه فأدركه . ومنه فأتبعه شهاب ثاقب . وقيل : أتبع مرادف تبع .
والبغي : الظلم ، مصدر بغى . وتقدم عند قوله - تعالى : والإثم والبغي بغير الحق في الأعراف .
والعدو : مصدر عدا . وهو تجاوز الحد في الظلم ، وهو مسوق لتأكيد البغي . وإنما عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا .
والمعنى : أن فرعون دخل البحر يتقصى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنعهم من السفر ، وإنما كان اتباعه إياهم ظلما وعدوانا إذ ليس له فيه شائبة حق ; لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء ، فإن لذي الوطن حقا في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له ، وللإنسان أن يتخلى عن حقه ، [ ص: 275 ] فلذلك كان الخلع في الجاهلية عقابا ، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي ، وكان الإمساك بالمكان عقابا ، ومنه السجن ، فليس الخروج من الوطن طوعا بعدوان . فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشد للحاق بهم لردهم كرها كان في ذلك ظالما معتديا ; لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم .
وحتى ابتدائية لوقوع إذا الفجائية بعدها . وهي غاية للاتباع ، أي استمر اتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه ، كل ذلك لا يفتأ يجد في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر ، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده ، فغرقوا وهلك فرعون غريقا ، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من إذا ، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذف . والتقدير : حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت ; لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الاتباع ، وليست الغاية هي قوله : آمنت وإن كان الأمران متقارنين .
والإدراك : اللحاق وانتهاء السير . وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجيا بهول البحر ومصارعته الموج ، وهو يأمل النجاة منه ، وأنه لم يظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت ، وذلك لتصلبه في الكفر .
وتركيب الجملة إيجاز ; لأنها قامت مقام خمس جمل :
جملة : تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق .
وجملة : تفيد أنه لم يلحقهم .
وهاتان مستفادتان من حتى ، وهاتان منة على بني إسرائيل .
وجملة : تفيد أنه غمره الماء فغرق ، وهذه مستفادة من قوله : أدركه الغرق وهي عقوبة له وكرامة لموسى - عليه السلام .
[ ص: 276 ] وجملة : تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان . وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله : إذا أدركه الغرق . وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية .
وجملة : تفيد أنه ما آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله . وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى .
وقد بني نظم الكلام على جملة إذا أدركه الغرق ، وجعل ما معها كالوسيلة إليها ، فجعلت حتى لبيان غاية الاتباع وجعلت الغاية أن قال آمنت لأن اتباعهبني إسرائيل كان مندفعا إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه ، فكانت غايته إيمانه بحقهم . ولذلك قال الذي آمنت به بنو إسرائيل ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هدوا إليه ، فجعل الصلة طريقا لمعرفته بالله ، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر ، ولذلك احتاج أن يزيد وأنا من المسلمين لأنه كان يسمع من موسى دعوته لأن يكون مسلما فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف ، ولذلك لم يقل : أسلمت ، بل قال أنا من المسلمين ، أي يلزمني ما التزموه . جاء بإيمانه مجملا لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله .
وسيأتي قريبا في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون ، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه .
وقرأ الجمهور آمنت أنه بفتح همزة أنه على تقدير باء الجر محذوفة . وقرأه حمزة والكسائي وخلف - بكسر الهمزة - على اعتبار إن واقعة في أول جملة ، وأن جملتها بدل من جملة آمنت بحذف متعلق فعل آمنت لأن جملة البدل تدل عليه .