nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90nindex.php?page=treesubj&link=28973_32424_32428_30539بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن
وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد
موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين .
و ( بئسما ) مركب من ( بئس ) و ( ما ) الزائدة . وفي ( بئس ) وضدها ( نعم ) خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان وفي ( ما ) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف
[ ص: 604 ] بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن ما الموصولة فقوله ( بئسما ) يفسر ببئس الشيء قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي . والآخر أنها موصولة قاله
الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ما وحدها كانت ما معرفة تامة نحو قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271إن تبدوا الصدقات فنعما هي أي نعم الشيء هي ، وإن وقعت بعد ( ما ) جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ما معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بئسما اشتروا به أنفسهم و ( ما ) فاعل بئس .
وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه ؛ فقوله ( أن يكفروا ) هو المخصوص بالذم ؛ والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من ( ما ) وعليه فقوله تعالى ( اشتروا ) إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و " أن يكفروا " هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان .
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فقوله تعالى هنا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بئسما اشتروا به أنفسهم مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا . فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فلما جاءهم ما عرفوا بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف . فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بئسما اشتروا به أنفسهم أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم ، وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90أن يكفروا بما أنزل الله هو أيضا بحسب الواقع وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت .
وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فلما جاءهم ما عرفوا على أحد الاحتمالين المتقدمين ؛ فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق ؛ فالآية على نحو قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=86أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة [ ص: 605 ] وقيل إن اشتروا بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع ، وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى . على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله ما عرفوا وقوله هنا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90اشتروا به أنفسهم فأنت في غنى عن التكلف . وعلى كلا التفسيرين يكون اشتروا مع ما تفرع عنه من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90فباءوا بغضب على غضب تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية .
وجيء بصيغة المضارع في قوله ( أن يكفروا ) ولم يؤت به على ما يناسب المبين وهو ( ما اشتروا ) المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية ؛ فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى . ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبين بأن يكفروا معبرا عنه بالماضي بقوله ( ما اشتروا ) . وقوله ( بغيا ) مفعول لأجله علة لقوله أن يكفروا لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم ، والبغي هنا مصدر بغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد . وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق . والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد
أبو الطيب إذ أخذ هذا المعنى في قوله :
وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
وقوله " أن ينزل الله " متعلق بقوله " بغيا " بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل بغيا بمعنى حسدا .
فاليهود كفروا حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90على من يشاء من عباده . وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90فباءوا بغضب على غضب أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع
[ ص: 606 ] إلى منزله خاسرا . شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بئسما اشتروا به أنفسهم . والظاهر أن المراد " بغضب على غضب " الغضب الشديد على حد قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35نور على نور أي نور عظيم . وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=40ظلمات بعضها فوق بعض وقول
أبي الطيب أرق على أرق ومثلي يأرق
وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغة في معنى القوة والشدة كقول
الحطيئة :
أتت آل شماس بن لأي وإنما أتاهم بها الأحلام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11880المعري بني الحسب الوضاح والمفخر الجم
أي العظيم . قال
القرطبي قال بعضهم : المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر
بمحمد وعيسى عليهما السلام .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90وللكافرين عذاب مهين هو كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فلعنة الله على الكافرين أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين . والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90nindex.php?page=treesubj&link=28973_32424_32428_30539بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ
اسْتِئْنَافٌ لِذَمِّهِمْ وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ إِذْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْكُفْرَ بِالْقُرْآنِ
وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ مِنَ الْوَعْدِ بِمَجِيءِ رَسُولٍ بَعْدَ
مُوسَى ، إِرْضَاءً لِدَاعِيَةِ الْحَسَدِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَبْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ إِذْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ فَهَذَا إِيقَاظٌ لَهُمْ نَحْوَ مَعْرِفَةِ دَاعِيهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَإِشْهَارٌ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ .
وَ ( بِئْسَمَا ) مُرَكَّبٌ مِنْ ( بِئْسَ ) وَ ( مَا ) الزَّائِدَةِ . وَفِي ( بِئْسَ ) وَضِدِّهَا ( نِعْمَ ) خِلَافٌ فِي كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ أَوِ اسْمَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا فِعْلَانِ وَفِي ( مَا ) الْمُتَّصِلَةِ بِهِمَا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ أَيْ تُفَسَّرُ بِاسْمٍ مُعَرَّفٍ
[ ص: 604 ] بِلَامِ التَّعْرِيفِ وَغَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى صِلَةٍ احْتِرَازًا عَنْ مَا الْمَوْصُولَةِ فَقَوْلُهُ ( بِئْسَمَا ) يُفَسَّرُ بِبِئْسَ الشَّيْءِ قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ . وَالْآخَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ قَالَهُ
الْفَرَّاءُ وَالْفَارِسِيُّ وَهَذَانِ هُمَا أَوْضَحُ الْوُجُوهِ فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا مَا وَحْدَهَا كَانَتْ مَا مَعْرِفَةً تَامَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=271إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هِيَ ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ ( مَا ) جُمْلَةٌ تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ صِلَةً كَانَتْ مَا مَعْرِفَةً نَاقِصَةً أَيْ مَوْصُولَةً نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ ( مَا ) فَاعِلُ بِئْسَ .
وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ بِئْسَ وَنِعْمَ اسْمٌ يُفِيدُ تَعْيِينَ الْمَقْصُودِ بِالذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ وَيُسَمَّى فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَخْصُوصَ وَقَدْ لَا يُذْكَرُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ لِتَقَدُّمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ فَقَوْلُهُ ( أَنْ يَكْفُرُوا ) هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ ؛ وَالتَّقْدِيرُ كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ أَوْ خَبَرًا مَحْذُوفَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ بَدَلًا أَوْ بَيَانًا مِنْ ( مَا ) وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ( اشْتَرَوْا ) إِمَّا صِفَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ أَوْ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولَةِ وَ " أَنْ يَكْفُرُوا " هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِكَ نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ .
وَالِاشْتِرَاءُ الِابْتِيَاعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مُجَازٌ أُطْلِقَ فِيهِ الِاشْتِرَاءُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ تَشْبِيهًا لِاسْتِبْقَائِهِ بِابْتِيَاعِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَهُمْ قَدْ آثَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَبْقَوْا عَلَيْهَا بِأَنْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ حَسَدًا . فَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا بِمَعْنَى جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا صِفَتَهُ وَإِنْ فَرَّطُوا فِي تَطْبِيقِهَا عَلَى الْمَوْصُوفِ . فَمَعْنَى اشْتِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ جَارٍ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ نَجَّوْهَا مِنَ الْعَذَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ بِئْسَمَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ وَأَمَّا كَوْنُهُ اشْتِرَاءً فَبِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ ، وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ أَيْضًا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ إِلَيْهِمْ لِلدَّوَامِ عَلَى شَرِيعَةٍ نُسِخَتْ .
وَإِنْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ صِدْقَ الرَّسُولِ وَكَانَ إِعْرَاضُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْمُكَابَرَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ؛ فَالِاشْتِرَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِبْقَاءِ الدُّنْيَوِيِّ أَيْ بِئْسَ الْعِوَضُ بِذْلُهُمُ الْكُفْرَ وَرِضَاهُمْ بِهِ لِبَقَاءِ الرِّئَاسَةِ وَالسُّمْعَةِ وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَةِ الصَّادِقِ ؛ فَالْآيَةُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=86أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ [ ص: 605 ] وَقِيلَ إِنَّ اشْتَرَوْا بِمَعْنَى بَاعُوا أَيْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَالْمُرَادُ بَذْلُهَا لِلْعَذَابِ فِي مُقَابَلَةِ إِرْضَاءِ مُكَابَرَتِهِمْ وَحَسَدِهِمْ وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاشْتِرَاءِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ مَجَازٌ بَعِيدٌ إِذْ هُوَ يُفْضِي إِلَى إِدْخَالِ الْغَلَطِ عَلَى السَّامِعِ ، وَإِفْسَادِ مَا أَحْكَمَتْهُ اللُّغَةُ مِنَ التَّفْرِقَةِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَيْهِ قَصْدُ قَائِلِهِ إِلَى بَيَانِ حَاصِلِ الْمَعْنَى . عَلَى أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ مَا عَرَفُوا وَقَوْلِهِ هُنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْتَ فِي غِنًى عَنِ التَّكَلُّفِ . وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ يَكُونُ اشْتَرَوْا مَعَ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ حَاوَلَ تِجَارَةً لِيَرْبَحَ فَأَصَابَهُ خُسْرَانٌ وَهُوَ تَمْثِيلٌ يَقْبَلُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ التَّمْثِيلِيَّةِ .
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ ( أَنْ يَكْفُرُوا ) وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْمُبَيَّنَ وَهُوَ ( مَا اشْتَرَوْا ) الْمُقْتَضِي أَنَّ الِاشْتِرَاءَ قَدْ مَضَى لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْآيَةِ ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اشْتِرَاءَ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ عَمَلٌ اسْتَقَرَّ وَمَضَى . ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ بَيَانُ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ نُبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَكْفُرُونَ وَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا فِيمَا مَضَى أَيْضًا إِذْ كَانَ الْمُبَيَّنُ بِأَنْ يَكْفُرُوا مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالْمَاضِي بِقَوْلِهِ ( مَا اشْتَرَوْا ) . وَقَوْلُهُ ( بَغْيًا ) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ أَنْ يَكْفُرُوا لِأَنَّهُ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِاشْتَرَوْا لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ هَنَا صَادِقٌ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِحُكْمِ الذَّمِّ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْمُومِ ، وَالْبَغْيُ هُنَا مَصْدَرُ بَغَى يَبْغِي إِذَا ظَلَمَ وَأَرَادَ بِهِ هُنَا ظُلْمًا خَاصًّا وَهُوَ الْحَسَدُ . وَإِنَّمَا جُعِلَ الْحَسَدُ ظُلْمًا لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْمُعَامَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَالْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ وَلَا حَقَّ لِلْحَاسِدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنَالُهُ مِنْ زَوَالِهَا نَفْعٌ ، وَلَا مِنْ بَقَائِهَا ضُرٌّ ، وَلَقَدْ أَجَادَ
أَبُو الطَّيِّبِ إِذْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ :
وَأَظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ
وَقَوْلُهُ " أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ " بَغْيًا " بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَأْوِيلِ بَغْيًا بِمَعْنَى حَسَدًا .
فَالْيَهُودُ كَفَرُوا حَسَدًا عَلَى خُرُوجِ النُّبُوءَةِ مِنْهُمْ إِلَى الْعَرَبِ وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ أَيْ فَرَجَعُوا مِنْ تِلْكَ الصَّفْقَةِ وَهِيَ اشْتِرَاءُ أَنْفُسِهِمْ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ بِحَالِ الْخَارِجِ بِسِلْعَتِهِ لِتِجَارَةٍ فَأَصَابَتْهُ خَسَارَةٌ فَرَجَعَ
[ ص: 606 ] إِلَى مَنْزِلِهِ خَاسِرًا . شَبَّهَ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْخُسْرَانِ بِرُجُوعِ التَّاجِرِ الْخَاسِرِ بَعْدَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ " بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ " الْغَضَبُ الشَّدِيدُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35نُورٌ عَلَى نُورٍ أَيْ نُورٌ عَظِيمٌ . وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=40ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَقَوْلِ
أَبِي الطَّيِّبِ أَرَقٌ عَلَى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ
وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ التَّكْرِيرِ بِاخْتِلَافِ صِيغَةٍ فِي مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ كَقَوْلِ
الْحُطَيْئَةِ :
أَتَتْ آلُ شَمَّاسِ بْنِ لَأْيٍ وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ بِهَا الْأَحْلَامُ وَالْحَسَبُ الْعَدُّ
أَيِ الْكَثِيرُ الْعَدَدِ أَيِ الْعَظِيمُ وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11880الْمَعَرِّيُّ بَنِي الْحَسَبِ الْوَضَّاحِ وَالْمَفْخَرِ الْجَمِّ
أَيِ الْعَظِيمِ . قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِهِ شِدَّةُ الْحَالِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ غَضَبَيْنِ وَهُمَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلْكُفْرِ وَلِلْحَسَدِ أَوْ لِلْكُفْرِ
بِمُحَمَّدٍ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=90وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ هُوَ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ أَيْ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَالْمَهِينُ الْمُذِلُّ أَيْ فِيهِ كَيْفِيَّةُ احْتِقَارِهِمْ .