[ ص: 60 ] فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين
فصلت هذه الجملة فصلا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم - عليه السلام - من سورة البقرة .
والمجادلة : المخاصمة بالقول وإيراد الحجة عليه ، فتكون في الخير كقوله : يجادلنا في قوم لوط ، ويكون في الشر كقوله : ولا جدال في الحج . وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجه ، وقد مضى عند قوله - تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم في سورة النساء .
وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه ، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادلها قومه ، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذ فقالوا قولهم هذا ، فكانت كلها مجادلات مضت . وكانت المجادلة الأخيرة هي التي استفزت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة ، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال ، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفا إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم
وقولهم فأكثرت جدالنا خبر مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع أجابهم بالمبادرة لبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته .
والإتيان بالشيء : إحضاره . وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره .
[ ص: 61 ] ) ما تعدنا ) مصداقه عذاب يوم أليم
والقصر في قوله : إنما يأتيكم به الله إن شاء قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم ، حملا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة ، وإلا فإنهم جازمون بتعذر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبا وهم جازمون بأن الله لم يتوعدهم ، ولعلهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله . وقوله : إن شاء احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا .
ومعنى وما أنتم بمعجزين ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد ، يريد أن العذاب واقع لا محالة . ولعل نوحا - عليه السلام - لم يكن له وحي من الله بأن يحل بهم عذاب الدنيا ، فلذلك فوضه إلى المشيئة ; أو لعله كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق بـ إن شاء منظورا فيه إلى كون العذاب معجلا أو مؤخرا .