تفريع عما دل عليه قوله وما يعلمان من أحد حتى يقولا المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون ، والضمير في فيتعلمون راجع لأحد الواقع في حيز النفي مدخولا لـ ( من ) الاستغراقية في قوله تعالى " وما يعلمان من أحد " فإنه بمعنى كل أحد ، فصار مدلوله جمعا .
قوله ما يفرقون به بين المرء وزوجه إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة ، قال تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما : والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة ، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان ، وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه ، وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما .
وقوله وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله جملة معترضة . وضمير هم عائد إلى أحد من قوله " وما يعلمان من أحد " لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحدا . وهذا تنبيه على أن وإنما يختلف [ ص: 645 ] تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور ، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء من قوله : السحر لا تأثير له بذاته إلا بإذن الله ، أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته ، وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ، ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة ، فالباء في قوله بإذن الله للملابسة . وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل ، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة ، نحو قوله وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى ، كقوله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله فقوله وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن ( ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة . فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم يعني : ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير يضرهم عائد على غير ما عاد عليه ضمير يتعلمون والمعنى : أن أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله ولا ينفعهم تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل : ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :
[ ص: 646 ]
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير الظبات تسيل
وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر . وإعادة فعل يتعلمون مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة .