هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف - عليه السلام - من السجن .
[ ص: 280 ] والتعريف في الملك للعهد ، أي ملك مصر . وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط ، وإنما كان ملكا لمصر أيام حكمها ( الهكسوس ) ، وهم العمالقة ، وهم من الكنعانيين ، أو من العرب ، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة ، أي البدو . وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - . وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط ، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة طيبة كما تقدم عند قوله - تعالى : وقال الذي اشتراه . وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفا لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى . ويقدر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف - عليه السلام - كان في مدة العائلة السابعة عشرة .
فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى - عليه السلام - بلقب فرعون هو من . وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك دقائق إعجاز القرآن العلمي مصر في زمن يوسف - عليه السلام - بفرعون وما هو بفرعون لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية ، فيكون زمن يوسف - عليه السلام - في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك .
وقوله : سمان جمع سمينة وسمين ، مثل كرام ، وهو وصف لـ بقرات
و ( عجاف ) جمع عجفاء . والقياس في جمع عجفاء عجف لكنه صيغ هنا بوزن فعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو سمان . كما قال الشاعر :
هتاك أخبية ولاج أبوية
والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية .
والعجفاء : ذات العجف بفتحتين وهو الهزال الشديد .
[ ص: 281 ] و وسبع سنبلات معطوف على سبع بقرات . والسنبلة تقدمت في قوله - تعالى : كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في سورة البقرة .
والملأ : أعيان الناس . وتقدم عند قوله - تعالى : قال الملأ من قومه في سورة الأعراف .
والإفتاء : الإخبار بالفتوى . وتقدمت آنفا عند قوله : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
وفي للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة ، أي أفتوني إفتاء ملابسا لرؤياي ملابسة البيان للمجمل .
وتقديم ( للرؤيا ) على عامله وهو ( تعبرون ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير . والتعريف في للرؤيا تعريف الجنس .
واللام في للرؤيا لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله . يقال : عبر الرؤيا من باب نصر . قال في الكشاف : وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات . ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير ، وقد عثرت على بيت أنشده في كتاب الكامل لبعض الأعراب : المبرد
رأيت رؤياي ثم عبرتها وكنت للأحلام عبارا
والمعنى : فسر ما تدل عليه وأول إشاراتها ورموزها .
وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به . وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم . وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرؤى ، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف - عليه السلام - في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم ، وسؤال الملك أهل ملئه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظن بهم علم تعبير الرؤيا ، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا .
[ ص: 282 ] وفي التوراة " فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له . " وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات . وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن أرسل إلى كسرى سطيح الكاهن ليعبر له الرؤيا أيام ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي معدودة من الإرهاصات النبوية . وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح .
فالتعريف في قوله : للرؤيا تعريف العهد ، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى . والمعنى : إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا .
والأضغاث : جمع ضغث بكسر الضاد المعجمة وهو : ما جمع في حزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر ، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام ، أي أضغاث للأحلام .
والأحلام : جمع حلم بضمتين وهو ما يراه النائم في نومه . والتقدير : هذه الرؤيا أضغاث أحلام . شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لما أشكل عليهم تأويلها .
والتعريف فيه أيضا تعريف العهد ، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين . وجمعت أحلام باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحلم ، فهي عدة رؤى .
والباء في بتأويل الأحلام لتأكيد اتصال العامل بالمفعول ، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء وامسحوا برءوسكم ؛ لأنهم نفوا التمكن من تأويل هذا الحلم . وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله : إن كنتم للرؤيا تعبرون
[ ص: 283 ] فلما ظهر عوص تعبير هذا الحلم تذكر ساقي الملك ما جرى له مع يوسف - عليه السلام - فقال أنا أنبئكم بتأويله
وابتداء كلامه بضميره وجعله مسندا إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبئ بتأويل رؤيا عوصت على علماء بلاط الملك ، مع إفادة تقوي الحكم ، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها ؛ لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوي ، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء ، ولذلك قال فأرسلون . وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبأ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن . وقد كان موقنا بأنه يجد يوسف - عليه السلام - في السجن لأنه قال أنا أنبئكم بتأويله دون تردد . ولعل سبب يقينه ببقاء يوسف - عليه السلام - في السجن أنه كان سجن الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته .
وادكر بالدال المهملة أصله : اذتكر ، وهو افتعال من الذكر ، قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتى إدغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال . وهذا أفصح الإبدال في ادكر . وهو قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى : فهل من مدكر كما في الصحيح .
ومعنى بعد أمة بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف - عليه السلام .
والأمة : أطلقت هنا على المدة الطويلة ، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل ، والجيل يسمى أمة ، كما في قوله - تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس على قول من حمله على الصحابة .
وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي . وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين .
وضمائر جمع المخاطب في ( أنبئكم فأرسلون ) مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله - تعالى : قال رب ارجعون
[ ص: 284 ] ولم يسم لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف - عليه السلام - بعد حصول تعبيره ليكون أوقع ، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين .